بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 20 سبتمبر 2014

كتاب عابد الله أزرق طيبة - 6 خصائص الأرواح وزيارة القبور



الفصل السادس
خصائص الارواح وزيارة القبور
      الأرواح كلها لطيفة، ليست ثقيلة ولا كثيفة كالأجسام، تسرح وتمرح حيث شاء الله، إن كانت مأذونة ولم تكن مسجونة، فعلى هذا تكون هذه الأمة كسائر الأمم في ذلك المعنى. ولا شك أن لها إختصاصاً أيضاً بزيادة تصرفات لأرواحها، ليس لغيرها من الأمم السابقة مشاركة معها فيه،  كما خصها الله تعالى - دون سائر الأمم - بخصائص لا تكاد تحصى .
      وإذا كان الأمر كذلك، فلعلمائها العاملين، وأوليائها العارفين : زيادة مزيّة  ومزيد إختصاص في تلك المنقبة العلية، ويتزايد الحال بمزيد العلم والصحبة الشريفة إلى أن ينتهي الشرف الأعلى والمجد الأسنى - كما بدأ - إلى نبي هذه الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلّم، نبي الشفاعة والرحمة، فإن له إختصاصاً في خصوص ذلك المعنى على سائر أولي العزم من المرسلين .
     إن الروايات عن طريق العامة والخاصة تؤكد أن رسول الله صلى الله عليه  وسلّم كان يزور أهل القبور ويترحّم عليهم ويسلّم[1]. وكذلك مضى على هذه السيرة الصحابة والتابعين  حيث كانوا يزورون المقابر ويذكرون أهلها. وعلى ذلك سار الشيخ عبد الله أزرق طيبة فهو يقوم بزيارة القبور ويترحم على من فيها ويعمل على تجديد البناء عليها.  
       إنّ المتتبّع لسنّة رسول الله صلى الله عليه و سلّم يرى الأمر بالنسبة إلى زيارة القبور أنّه مرّ بثلاث مراحل في عهد الرسالة .
المرحلة الأولى:
    جواز زيارة القبور، وذلك إستمراراً لما كانت عليه الشرائع السابقة. وخير مثالـ والأسبق تاريخياً ـ في ما ذكره القرآن الكريم لإحترام مراقد الأولياء وتعاهدها بالزيارة، هو مرقد فتية أصحاب الكهف، إذ قال تعالى: )إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً )[2]، وتُشعر الآية بذكرها المسجد بأنّ هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم الموحّدون، فالآية فيها دلالة على جواز البناء على القبور وزيارتها، والمسجد إنّما يُتخذ ليؤتى على الدوام ويقصده الناس ليذكروا إسم الله  فيه.
المرحلة الثانية:
     المنع لعلل يأتي ذكرها، ويستنبط ذلك من قوله صلى الله عليه و سلّم: ( كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَلا فَزُورُوهَا [3](، ويتّضح من هذه الرواية أنّ المسلمين كانوا يزورون القبور، ثمّ ورد عن رسول الله  صلى الله عليه وسلّم فيها المنع، ثمّ أذن لهم بعد ذلك في الزيارة. ففي رواية أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم:         (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هجرا) [4] ، والهُجر هو الكلام القبيح المهجور لقبحه، وهذا الحديث كأنّه يتضمّن علّة النهي أو بعضها، وهي أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أراد إلغاء عادات الجاهليّة وتأسيس آداب إسلاميّة للزيارة.
    ولعلّ نهي رسول الله  صلى الله عليه و سلّم في الفترة التي منع فيها زيارة القبور كان لكثرة قبور المشركين، وحيث أنّ الزيارة للقبر تزيد وتعمّق أواصر الارتباط بين الزائر والمزور، وتجدّد في النفوس روح الاقتداء بهم وإحياء آثارهم، أمر صلى الله عليه و سلّم بعدم زيارة القبور، ولما كثر المؤمنون بينهم وقوى الإسلام رخص صلى الله عليه و سلّم الزيارة باذن الله[5].
    ولهذا ورد في قوله تعالى النهي عن القيام عند قبور المنافقين (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)[6] ، ففي هذه الآية دلالة واضحة على جواز ذلك في شأن من مات على الإسلام، وأنّ ذلك معهود بين المسلمين، وأنّ الآية إنّما نزلت لتستثني الكفار والمنافقين، كما هو في ذيل الآية )إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ(.
المرحلة الثالثة :
   تجويز زيارة القبور ورفع الحظر والمنع، فقد ثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنّه كان يخرج مراراً إلى البقيع لزيارة قبور المؤمنين، وورد أنّه صلى الله عليه وسلّم زار قبر أمّه وبكى وأبكى من حوله. وقال صلى الله عليه وسلّم: (نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّ في زيارتها تذكرة)[7]. وقال صلى الله عليه وسلّم :(إنّي نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّ فيها عبرة).[8] .
     وإنّ من أبرز العبر في زيارة القبور[9]، إنّها توفّر للزائر أجواء يستوحي منها ذكر الموت والزهد في الدنيا والعمل للآخرة والإقبال على الله، فيشد عزيمته لمواصلة درب الصلحاء والأولياء، فالزائر يستلهم من منهجهم الوعي المحفز لمواصلة ركب الإيمان.  والإنسان في وقوفه أمام هذه المراقد  لا ينشد سوى الحق والحقيقة، ومثل هذه الوقفات تبعث أثراً روحياً عميقاً في النفوس، ويكون لها جذوات مؤثرة تشد الإنسان لجمال الحق وتجذبه إلى الحقيقة التي تتجلى أمامه في مظهر متكامل.
        والأحاديث تأمرنا بالزيارة لأنهاـ في حقيقتهاـ بيعة يبايعها الزائر للمزور، فأنت حين تزور النبي صلى الله عليه وسلّم طائعاً مؤمناً بأنه رسول الله، فهذه بيعة منك وطاعة لله ورسوله وتجديد للعهد وتثبيت للإيمان، وهكذا هي زيارة أي صالح من المؤمنين وليس من صالح إلا في خط النبي صلى الله عليه وسلّم .
    قال النبي  صلى الله عليه وسلّم وهو على فراش الموت يستعد للقاء الرفيق الأعلى قال:) إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة، إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا؛ أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم".)[10].
تساؤولات وردود:
   قال النبي صلى الله عليه و سلّم: (( اللهم لا تجعل قبري وثنا يصلى عليه)  وفي رواية : ( يعبد ))[11] ، وفي الخبر الثاني: ( لا تجعل قبري عيدا ...) الحديث، وبهذا تَرِد تساؤولات، نجدها مع ردودها فى  اجابة الشيخ عيسى بن مانع الحميري عليها فى كتاب (بلوغ المأمول في الاحتفاء والاحتفال بمولد الرسول) يقول: ((ومما فتح الله به على العبد الضعيف بفضل الله تعالى من قول المصطفى صلى الله عليه و سلّم نجيب وبالله التوفيق بالاتى:
التساؤل الأول: لم قال النبي صلى الله عليه و سلّم: ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يصلى عليه ) ؟ أو( وثنا يعبد) هل كشف له حال الأمة من بعده أنها ستتخذ قبره وثنا أم رأى من تعظيم أصحابه له أنه يصل بهم إلى الحد أن يتخذوا قبره وثنا ، فدعا بهذه الدعوة؟؟
      فهذا التساؤل مجاب عليه ضمنا بأنه صلى الله عليه وسلّم لم يخص زيارته بيوم معين ولم يكلف الأمة عناء ذلك وتخصيص ذلك اليوم لأن فضله صلى الله عليه وسلّم إنما استمد من صلاة الله المتكررة عليه في كل لحظة فلا يليق بما تكرر فضله أن يخصص بيوم معين لأنه هو الممد للفضائل كلها وهو عين الأعيان الإمدادية صلى الله عليه وسلّم. وكما أن المراد من زيارته  توطن محبته صلى الله عليه وسلّم في القلوب وتطبع النفوس بالصلاة عليه كذلك الاحتفال به ما هو إلا توطين محبته في القلوب وتطبيع النفس بإدمان الصلاة عليه صلى الله عليه وسلّم.
    والحديث وإن كان لفظه النفي فمعناه وجوب المواصلة الدائمة، أي لا تجعله عيدا مرة في السنة بل اجعله معراجا متصلا ... لذا ترك الابتهاج به مرة واحدة لوجوبه في كل لحظة .
    أضف إلى ذلك البيان الذي جاء في عجز الحديث:( ولا تجعلوا بيوتكم قبورا... ) يعني بل عيدا ... أي أن الابتهاج به لا يختص بالمكان ليوافق ذلك قوله سبحانه : ( واعلموا أن فيكم رسول الله )[12] ، ولا يعني ذلك نفي منزلة المكان وفضله ولكن على قدر الكمال يضاعف الأجر .
   وهذا دليلنا لتخصيص ليلة المولد النبوي الشريف بالابتهاج بالنسبة إلينا، فالمناسبات جرس لتنبيه الغافل لا لتحكي ما في نفس الأمر. فللرسول صلى الله عليه وسلّم رحمة دائمة وحضور دائم ... وما المناسبات إلا تنبيه للعوام في تفسير المطلق ... فالحضور والشعور به إنما هو للعبد المكلف لا حضور رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ هو إرسال دائم لا ينقطع ورحمة دائمة لا تنفد .
       و الدليل الثانى وهو قدر الإسلام وقدر القرآن وقدر الرسول صلى الله عليه وسلّم المتحقق في كل زمان ومكان، حيث أكد على ذلك القرآن في آيات كثيرة منها قوله: ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ).
 1- فإذا كان قد تحقق فضل الزمان والمكان في الأبعاض والفروع أي بالنسبة إلى ملاحِظِه، فمن باب أولى أن يتحقق ذلك في الأصول. وهذا الأمر قد تحقق بناموس الفطرة التي فطرها الله، فالخير إذا عم شاع، كمثل اشتهار بلد بشيء ما كثمر أو صنعة ... فانتشارها في العالم يحقق فائدتها ولكن يبقى لها في موطنها تمييز خاص له أثره ... فهذا حال كل عظيم .
       أضف إلى ما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال في هديه: ( إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب )[13]. وقال صلى الله عليه وسلّم أيضا: ( إن هذه الأمة مرحومة )[14] فإذا لم يخش النبي صلى الله عليه و سلّم من الشرك وإنما خشي عليها من الاختلاف في جهل فقه الاختلاف ... وقد استجيبت دعوته صلى الله عليه وسلّم.
     أما احتمال أن يرى أصحابه وقد اتخذوا قبره وثنا فهذا احتمال باطل لقوله صلى الله عليه و سلّم: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ... )[15] الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلّم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ... )[16] أي : سنته ومنهج آل بيته وأصحابه أجمعين .
التساؤل الثاني : هل يقصد النبي صلى الله عليه و سلّم بالعيد : الابتهاج والفرح أم التعظبم والتوقير لقبره ؟ وهل التوقير يؤدي إلى العبادة ؟!
       يقصد النبي صلى الله عليه وسلّم بالعيد: الابتهاج والفرح لأنهما مظهر من مظاهر التوقير والتعظيم فمن عظم شيئا ابتهج له ووقره .
       فابتهاجنا بعيد الفطر مظهر تعظيمنا لشهر رمضان المبارك، وابتهاجنا بعيد الأضحى مظهر لمشاركتنا بهجة الحجيج في تعظيمهم لأيام الله المشهورة. وعيد الأضحى هو عيد الأعياد ففيه فرحة آدم وحواء، وفيه فرحة إبراهيم بفداء ابنه عليه السلام، وفيه فرحة رسولنا الكريم صلى الله عليه و سلّم بتمام الرسالة ... ولذلك سمي بالعيد الأكبر. ودعاء النبي صلى الله عليه وسلّم قد استجيب، فليس أحد من المسلمين يعبد محمدا، إنما هو التوقير والتعظيم له صلى الله عليه وسلّم.
التساؤل الثالث : ما السبب في نهي النبي صلى الله عليه و سلّم عن اتخاذ بيته عيدا واتخاذ بيوت المؤمنين مقابر، وما هي المناسبة لهذا الربط، وما العيد الذي عناه، وما المقابر التي عناها ، وإلى ماذا يرشد الحديث ؟
       لقد تبين من الجواب المتقدم طرف من محصل هذا التساؤل، وبقي بيان مناسبة الارتباط بين بيته صلى الله عليه وسلّم وبيوت المؤمنين .
        لاشك أن المناسبة هي أن وجود روحه صلى الله عليه و سلّم غير مقتصرة على مسجده بل إن روحه حاضرة جوالة في بيوت المؤمنين وذلك لكثرة ذكرها، إذ أن الرحمة متحصلة حيثما تعرض لها بالذكر وجدا أو تواجدا، ودليله الحديث: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )[17]، والرحمة هنا هي روح سيد المرسلين قال سبحانه وتعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وأرواح أولياء الله الصالحين، وقد ثبت عن الإمام الجليل سفيان بن عيينة أنه قال: (عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة)[18].
     ولا يمنع النبي صلى الله عليه وسلّم البهجة حين رؤية مرقده أو زيارة مسجده بهذا الحديث، وكأني به صلى الله عليه وسلّم يقول: "لا تقصروا الفرحة بي عند مجيئكم مسجدي بل افرحوا بي حيثما كنتم وحيثما حللتم ..." فكل موطن لا يظهر فيها الابتهاج والفرح برسول الله صلى الله عليه وسلّم – والذي من أجلى مظاهره الصلاة والسلام عليه – إنما هو حسرة وندامة كما قال صلى الله عليه وسلّم ذلك في هديه الشريف: ( ما قعد قوم مقعدا لا يذكرون الله فيه ولا يصلون على النبي صلى الله عليه و سلّم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن أدخلوا الجنة للثواب )[19].       فالعيد الذي عناه صلى الله عليه وسلّم هو الفرح والبهجة به حيثما وجد المؤمن ... والمقابر التي عناها هي عدم الابتهاج به وذلك من عدم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلّم والتي يترتب عليها موت القلوب والأرواح وبقاؤها في سجن الأشباح، لا تعرف للنور سبيلا ، وهذا معنى اللعن والطرد من رحمة الله، فقد أخرج مسلم في صحيحه: ( مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت ) والحديث يرشد إلى الآتي :
1- الحض على الابتهاج بزيارته ومولده صلى الله عليه وسلّم وأنهما يتحدان في تأصيل الإيمان وتثبيت القلوب وتطبيعها على التوقير والتعظيم له صلى الله عليه وسلّم.
2- أن الصلاة عليه أعظم مظهر من مظاهر الابتهاج وهي متحققة في توقيره وتعظيمه والاحتفاء برفعة شأنه .
3- إظهار النبي صلى الله عليه وسلّم لقدره، وأن قدره غير محصور في بقعة من البقاع أو مكان من الأمكنة بل هو ممتد في جميع مناحي الحياة، للبر والفاجر، للكافرين رحمة إيقاظ وتأجيل عذاب في الحياة الدنيا، وللمؤمنين رحمة إرشاد وإمداد  (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقوله: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا). فالبشارة هي النعمة التي حظي بها المؤمنون .
4- التيسير على المسلمين لزيارة قبره المكرم في أي وقت دون تحديد وقت معين
5- توضيح النبي صلى الله عليه وسلّم للأمة بأن الصلاة عليه وزيارته عيد لا كالأعياد، بل هو سيد الأعياد، والسيد بابه مفتوح، لا يفتح في وقت دون وقت.
6- تبيين مقام الصلاة عليه صلى الله عليه وسلّم.
7- الحديث يدعو إلى استمرار التعلق به صلى الله عليه وسلّم وأن التعلق لا يتوقف على الزمان والمكان بل هو في كل وقت وحين .
8- العيد مظهر من مظاهر الشكر لله سبحانه وتعالى .
        والصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلّم مظهر من مظاهر المنة، والمنة تحتاج لحفاوة مطلقة وابتهاج مطلق وتوقير وتعظيم مستمر لأن المنة تكون بما يصدر منه إليك، وأما الشكر فيما يصدر منك إليه تعالى. فالشكر مظهر من مظاهر المنة وهو بمنزلة الفرع من الأصل ... وصدق الله إذ يقول:( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ... )
التساؤل الرابع : هل يعني بالعيد إظهار زينة مخصوصة كما يعمل في الأعياد، وهل يكتفى في الزيارة بالسلام والدعاء فقط ؟
    لا شك أن الزينة مظهر اتفقت عليه الأعراف لكل ابتهاج كالفرحة بالزواج، وقد حضت على إظهاره الشريعة الغراء لقوله صلى الله عليه وسلّم :( أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف )[20].
     ويسن فيه ضرب الدف والغناء المهذب، ووضع مظاهر الزينة، فما دامت هذه الأشياء معتبرة عرفا وشرعا فمن باب أولى أن تستعمل في الابتهاج بمنة الله العظمى وليس ثمة مسوغ في المنع بل التحذير من منعها لقوله سبحانه: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ... )
       فالنهي منصب إذن على تخصيص يوم معين والغفلة عن ذلك في سائر الأيام، لأن توقيره وتعظيمه صلى الله عليه و سلّم والابتهاج به دين وأي دين .
ولا يكتفى عند الزيارة بالسلام والدعاء فقط دون الابتهاج والتوقير والتعظيم واستحضار قداسة المكان لأجل أن يتحقق رجاء العبد من المنان عند وقوفه بباب كعبة الإحسان صلى الله عليه وسلّم.
التساؤل الخامس : هل في الحديث نهي للصحابة من توقير وتعظيم قبره ؟ وهل يأمرهم بالابتهاج في دورهم وينهاهم عن ذلك في مسجده ؟ وهل الاحتفال مقصور على البيوت دون المسجد ؟
        ليس في الحديث نهي عن توقير وتعظيم قبره، بل في الحديث أمر وحض على توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلّم لما قررنا سلفا، ويؤيده قول سبحانه: (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ) فاعتبر الصلاة عليه بمنزلة التسبيح والتهليل بل هي أعظم لأنها ذكر الله وملائكته .
       نعم، يأمرهم بالابتهاج في دورهم ولم ينههم عن ذلك في مسجده إلا إذا اقتصر عليه دون سواه كما تقدم، ولا يعني كونه أمر به في البيوت، ومنعه في مسجده ، فالمنع منصب إذا خصص بيته قيدا للابتهاج دون سواه كما تقرر سابقا، والله أعلم .
الحديث الآخر: ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) قال الخفاج: (أي كالوثن وهو الصنم من الحجارة ... أي بعد وضعي فيه، وقيل: الفرق بين الوثن والصنم ... الأول ما كان نحتا من حجارة وغيرها، والثاني ما كان صورة مجسمة، وقيل: هما بمعنى، فيطلقان عليهما)[21] انتهى .
    قال الإمام الألوسي عند قوله سبحانه وتعالى:( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) قال: محمد صلى الله عليه وسلّم. وقال في تفسيره عند قوله سبحانه: ( والسابقات سبقا): أي أرواح الصالحين ممن تقضى بهم الحوائج، وتنال بهم الرغائب))[22] .انتهى.
    قال الشيخ عبدالله بن النعمان[23] في كتاب المستغيثين بخير الانام حديث حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلّم حنين العشار متواتر رواه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم العدد الكثير والجم الغفير منهم جابر بن عبدالله وابن عمر ومن طريقهما أخرجه البخاري وانس بن مالك وعبدالله بن عباس وسهل بن سعد الساعدي وأبو سعيد الخدري وخلافهم[24] .
     قال جابر في روياته فصاحت الخشبة فضمها إليه، في حديثه أيضا سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار وفي رواية أبن عمر رضي الله عنهما، لما أتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم المنبر تحول اليه، فبكي الجذع فاتاه فمسح بيده عليه وفي بعض الروايات قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمِ الْتَزِمْهُ، لَمْ يَزَلْ هَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَحَزُّنًا عَلَىّ(( أي يبقى له صياح)) حتى تقوم الساعة )[25].وقد نظم صالح الشافعي في ذلك فقال:
وحن اليه الجذع شوقاً ورقة
                   ورجع صوتاً كالعشار مرددا
فبادره ضما فقرّ لوقته
                  لكل امرىء من دهره ما تعودا
       قال تعالى:( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[26].
     فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلتزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها وإستحقاقه لها صلى الله عليه وسلّم إذ قرع الله تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب[27] إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله تعالى: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِه)  ثم فسقهم وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله .


[1] عن عايشة رضي الله عنها مرفوعا : قال صلى الله عليه وسلم : أتاني جبريل فقال : إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم ، قالت : كيف أقول لهم يا رسول الله ؟ قال : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، يرحم الله المستقدمين منا و المستأخرين ، وإنا إنشاء الله بكم لاحقون. أخرجه مسلم في صحيحه وجمع آخر من الفقهاء والحفاظ وفي رواية : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العافية.     أخرجه البيهقي في سننه الكبرى 4 ص 79.

[2] سورة الكهف الآية21(
[3] أخرجه مسلم (53/6،6/82)
[4] أخرجه أحمد في مسنده 3 ص 237 ، 250 ، والحاكم في المستدرك 1 ص 376 وصححه هو وأقره الذهبي. والبيهقي في سننه الكبرى 4 ص 77.
[5] إذا جاء الأمـر بعد المنع والنهي ؛كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ؛ فزوروه ) رواه مسلم وغيره فهل الأمر هنا للوجوب ، أو للإباحة ؟ يرى جمهور العلماء أن الأمر بعدالحظر يفيد الإباحة .ودليلهم على ذلك : مثل قوله تعالى : (وإذا حللتم فاصطادوا) سورة المائدة(2).
[6] سورة التوبة : 84
[7] أخرجه أبو داود في سننه 2 ص 72
[8] أخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي 3 ص 58.
[9] حديث أبي هريرة والسيدة عائشة وبريدة واللفظ له عند مسلم وغيره كما في تلخيص الحبير ( 2 / 137(أن النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يقول إذا ذهب إلى المقابر : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ،وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، أسال الله لناولكم العافية.)يقول ابن القيم: (فإن السلام على من لا يشعرولايعلم بالمسلم محال، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين،وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين مناوالمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية) وهذا السلام والخطاب والنداء الموجود يسمع، ويخاطب،ويعقل، ويرد،وإن لم يسمع المسلم الرد، وإذاصلى قريبا منهم شاهدوه، وعلموا صلاته، وغبطوه على ذلك) انتهى كلام ابن القيم كما في كتابه الروح.
[10] انظر حديث رقم: 2469 في صحيح الجامع.
[11] أخرجه أحمد في المسند 7352 موصولا ومالك في الموطأ 172 مرسلا وأخرجه البزار (مجمع الزوائد 2/28) موصولا
[12] سورة الحجرات: 7
[13] رواه مسلم 2812
[14] أخرجه أحمد في المسند 4/408 وإسناده لا بأس به وله شواهد تقويه .

[15] أخرجه البخاري 2652 ومسلم 2533
[16] أخرجه الترمذي 2676 وصححه هو وابن حبان ، واللفظ له .
[17] أخرجه مسلم
[18] أخرجه أبونعيم في حلية الأولياء
[19] أخرجه ابن حبان .

[20] أخرجه ابن حبان  والحاكم 
[21] نسيم الرياض 3/513- الخفاج
[22] كتاب  (بلوغ المأمول في الاحتفاء والاحتفال بمولد الرسول)- الشيخ عيسى بن مانع الحميري
[23] الإمام أبو عبد الله محمد بن موسى المراكشي المالكي. نص على جواز الإستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وولد سنة (607) وتوفى سنة (683)، وصنف في هذا كتابه "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام عليه السلام في اليقظة والمنام". ترجم له العلامة الصفدي في الوافي بالوفيات (5/60) فقال: (محمد بن موسى بن النعمان الشيخ أبو عبد الله المزالي التلمساني ... وكان فقيهاً مالكياً زاهداً عابداً عارفاً ... وله تصانيف منها كتاب مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام).
[24] كان الحسن البصري رحمه الله إذا حدث بحديث حنين الجذع يقول يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه [ المعجم الأوسط 3/ 423 حديث 1462 ، دلائل النبوة للبيهقي 2/ 447 حديث 826 ، صحيح ابن حبان 27 / 46 حديث 6615
[25]واه البخاري 11/ 420 حديث 3319
[26] سورة التوبة  24
[27] حب النبي صلى الله عليه وسلم من أهم أنواع الحب الذي يجب أن يتعلمه كل إنسان وينغرس في قلب كل شخص صغيراً كان أو كبيراً .. ذكراً أم أنثى ، ولا بد أن تتقدم محبته صلى الله عليه وسلم على كل شيء حتى النفس .. كيف وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي )) ، فقال له صلى الله عليه وسلم : (( لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك )) فقال عمر رضي الله عنه (( فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي )) فقال صلى الله عليه وسلم : (( الآن يا عمر )) رواه البخاري.... وقال صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )) رواه البخاري ومسلم . ومحبته صلى الله عليه وسلم طريق لتذوق حلاوة الإيمان حيث قال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .. ) رواه البخاري ومسلم . وهذا يقتضي أن تقدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة النفس والمال والولد والأهل والزوجة وكل شيء . ولله در صحابته صلى الله عليه وسلم لقد عرفوا ذلك فسابقوا على محبته رجالاً ونساءً شباباً وشيباً .. حتى صار أحب إليهم من كل شيء ، أجل من كل شيء .

ليست هناك تعليقات: