بحث هذه المدونة الإلكترونية

كتاب مفهوم الولاية والأولياء الفصل الأول (1)



الفصل الأول
حديث الولي
   
      الأولياء هم العلماء على الحقيقة وليس الولي هو من تجرى على يديه خوارق العادات والكرامات فحسب، أو من يستسقى به الغمام ولا شيء بعد ذلك، بل المعارف الإلهية هي أخص وصف للولي. وقد وصف الله تعالى أوليائه في كتابه فقال: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)[6]، ولاية الله أو حبه  لبني الانسان هما الغاية التي يسعى إليها كل مسلم يحب الله ورسوله، فإذا قلنا: الطريق إلى الولاية أو إلى حب الله للإنسان، كان ذلك بمعنى واحد، وكان ذلك ملتقياً مع الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه عز وجل: عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله تَعالَى قَال: مَنْ عَادَى لي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ، فإذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بهِ، وَيَدَهُ الّتي يَبْطِشُ بهَا، وَرِجْلَهُ الّتي يَمْشي بِهُا، وَإنْ سَأَلِني لأعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ)[7]
     وفى رواية أخرى (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ جِبْرِيلَ، عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: " مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَادَرَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ مَا تَرَدَّدْتُ فِي قَبْضِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، لأَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلا بُدُّ لَهُ مِنْهُ ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُرِيدُ بَابًا مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَكُفُّهُ عَنْهُ لا يَدْخُلُهُ عُجْبٌ فَيَفْسَدُ لِذَلِكَ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَنَفَّلُ لِي حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا، وَبَصَرًا، وَيَدًا، وَمُؤَيِّدًا، دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، وَسَأَلَنِي فَأَعْطَيْتُهُ، وَنَصَحَ لِي فَنَصَحْتُ لَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا الْفَقْرُ، وَلَوْ بَسَطْتُ لَهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا السَّقَمُ ، وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، إِنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي، إِنِّي بِعُلُومِهِمْ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[8].
      هذا الحديث عن قوم إصطفاهم الله بمحبّته، وآثرهم بفضله ورحمته، أولئك الذين إعتصموا بأسباب السعادة والنجاح، وأجتهدت نفوسهم في نيل الرضا والفلاح، ولم تملّ أبدانهم قطّ من طول العبادة، فأفاض الله عليهم من أنواره، وجعل لهم مكانة لم يجعلها لغيرهم، وتولاّهم بنصرته وتأييده، أولئك هم أولياء الله. ونقل ابن حجر في فتح الباري عن الطوفي أنه قال :هذا الحديث أصل في السلوك إلى الله والوصول إلى معرفته ومحبته وطريقه إذ المفترضات الباطنة وهي الإيمان والظاهرة وهي الإسلام والمركب منهما وهو الإحسان فيهما كما تضمنه حديث جبريل، والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرها)[9]. اهـ
     والمراد من هذا الحديث أن من إجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض ثم بالنوافل قَرَّبه إليه ورَقَّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته، وخوفه ومهابته، والأنس به والشوق إليه، حتى يصير الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة،  ومتى إمتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به، أى  إمداد الرب سبحانه لهذه الأعضاء بنوره الذي تلوح به طرائق الهداية وتنقشع عنده سحب الغَوَاية.
      ومعنى هذا: أن الله تعالى يرفع هذا المؤمن إلى مرتبه عليا من مراتب العبودية  فى عالم الأفعال فيرى جميع أفعاله بالله تعالى لا شئ سواه فيرى جميع الأعمال من السمع والبصر والبطش والسعى وغيرها منناً من الله تعالى ونعماً من نعمه شرفه بها فيجيب عليه أن يقوم بشكرها.
       ومن هنا ظهرت كرامات السماع والإبصار وطى الأرض والتأثير فى الجميع بالضربة والرمى فالعبد الذى أفاض الحق تعالى عليه أنوار الأسماء والصفات وأنوار كمال الذات على مقتضى إفاضته أنوار المحبة عليه قد تظهر منه مثل هذه الخوارق إكراماً من الله تعالى كما هو ظاهر لكم .
         وأوضح الحديث أن كل من آذى ولياً لله بقول أو فعل، فإن الله يعلمه بأنه محارب له، وأنه سبحانه هو الذي يتولى الدفاع عنه، وليس للعبد قبل ولا طاقة بمحاربة الله عز وجل، هذا الحديث هو إخبار من الله تعالى بلسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خصوصية عبد من عباد الله تولاه  الله برحمته، وجعله في رعايته وحفظه فهو في رحمته يتقلب، و في عنايته يتنعم)[10].
     سوف نقوم ببيان ما ورد فى هذا الحديث حسب أقسامه الرئيسية التى يمكن تقسيمها كما يلى: القسم الاول هو الوعد الالهي، و القسم الثاني هو تعريف للولي، والقسم الثالث هو مرحلة فاذا احببته،  والقسم الرابع وهو القسم الاكبر وهو تعريف مميزات وقدرات الولي، نتاول أن شاء الله تعالى ما اشتملت عليه هذه الأقسام تفصيلا فيما يلى:
القسم الاول:الوعيد الالهي
  
      نجد أن هذا الحديث الشريف يبدأ بانذار بليغ:( مَنْ عَادَى لي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ). هذه قاعدة جليلة، تفيض على قلوب المؤمنين أنهاراً من اليقين والإخلاص لربٍّ يدافع عن أحبابه، ويحمي أولياءه، إنها قاعدة في الحب! وأي حبٍّ هذا؟ لو ذاقه امرؤ القيس لتبرأ من: (قفا نبكِ)، ولو عرفه مجنون ليلى لشفي من جنونه ونجا، ولو عايشه عنترة لما ذكر عند التقاء الرماح غير ربه العزيز الأعلى. تأمل يا كل مؤمنٍ بربه: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" "فأخبر أن معاداة أوليائه معاداة له ومحاربة له، ومن كان متصدياً لعداوة الرب ومحاربة مالك الملك فهو مخذول، ومن تكفل الله بالذَّبِّ عنه فهو منصور؛ وذلك لكمال موافقة أولياء الله لله في محابِّه؛ فأحبهم وقام بكفايتهم، وكفاهم ما أهمهم".[11] "وهذه نصرة عظيمة، وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه: أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا، ويقر أعينهم ممن آذاهم)[12].
     من هو هذا الولي الذي تكفل الله بالدفاع عنه، وبأن ينتقم من أعدائه؟ لقد بين صاحب الشأن سبحانه في كتابه الكريم صفة أوليائه فقال: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ )[13]، فالإيمان والتقوى هما شرطا ولاية الحق سبحانه، فمن آمن بالله واتقاه؛ تولاه الله. ودل قوله: "وَكَانُوا يَتَّقُونَ" على أن التقوى ملازمة لهم؛ أخذاً من صيغة (كانوا)، وأنها متجددة منهم؛ أخذاً من صيغة المضارع في قوله: (يتقون) – قال ابن عاشور : وقد كنت أقول في المذاكرات منذ سنين خلت في أيام الطلب: أن هذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه في تفسير حقيقة الولي شرعاً، وأن على حقيقتها يحمل معنى قوله في الحديث القدسي: "قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بحرب[14] " إن "الولي" في اللغة مشتق من (الولْي) وهو: القرب، كما أن العدو من (العَدْو) وهو: البعد، فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته[15]. والولي لا يكون ولياً لله إلا بمتابعة الرسول باطناً وظاهراً، فعلى قدر المتابعة للرسول يكون قدر الولاية لله "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ"[16] بهذا نعلم أن "ولاية الله سبحانه وتعالى لا تأتي بالدعوى.
فإن قلتَ - أيها القارئ الكريم : هل من شرط الولي أن لا يقع في ذنب؟ فالجواب: لا! فليس "من شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم؛ بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقا"ً[17].
    إن معاداة أولياء الله تقع من أربعة أوجه: أحدها: أن يعاديهم الإنسان عصبية لغيرهم، وهؤلاء من أخسر الناس حظاً يوم القيامة؛ كما تحدثنا سورة الأحزاب: "وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا"؛ وتأمل ماذا جاء بعد هذا مباشرة؟ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا" دفاع عن وليٍّ من أولياء الله تعالى.  والثاني: أن يعاديهم بمخالفة مذهبهم في الاعتقاد والإيمان، قال الحق سبحانه: "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"[18] والثالث: يعاديهم باحتقارهم والتنقص منهم؛ فيكون الفعل بهم فعل الأعداء، كما كان بعض الجهال يحصب أويساً القرني. والرابع: أنه قد يكون بين الولي وبين الناس معاملات وخصومات[19]؛ فيعاديه لأمور دنيوية، وهذه قد لا يسلم منها مسلم، وقد نبه على هذا الوزير ابن هبيرة فقال: "ولا أرى المعنى إلا من عاداه لأجل ولاية الله، وأما إذا كانت لأحوال تقتضي نزاعاً بين وليين لله - محاكمة أو خصومة راجعة إلى استخراج حق غامض - فإن ذلك لا يدخل في هذا الحديث؛ فإنه قد جرى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خصومة، وبين العباس وعلي رضي الله عنهما، وبين كثير من الصحابة، وكلهم كانوا أولياء لله عز وجل"[20].
     واعلم أنَّ جميعَ المعاصي محاربة لله تبارك، قال الحسن: ابنَ آدم هل لك بمحاربة الله من طاقةٍ ؟ فإنَّ مَنْ عصى الله، فقد حاربه، لكن كلَّما كانَ الذَّنبُ أقبحَ ، كانت المحاربة لله أشد ولهذا سمّى الله تعالى أَكَلةَ الرِّبا، وقُطَّاع الطَّريق محاربينَ لله تعالى ورسوله؛ لعظيم ظلمهم لعباده، وسعيهم بالفساد في بلاده، وكذلك معاداةُ أوليائه، فإنَّه تعالى يتولَّى نُصرةَ أوليائه، ويُحبهم ويؤيِّدُهم، فمن عاداهم، فقد عادى الله وحاربه، وفي الحديث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (( اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتَّخذوهُم غرضاً، فمن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يُوشِكُ أن يأخُذَهُ ))[21].
    إن التعدي على أولياء الله من المؤمنين ذنبٌ شنيع، ودَينٌ ثقيل يحمله صاحبه على كاهله، "ولهذا غضب الله لجبريل على من عاداه، فقال: "مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ"[22]  وأين سيفر هذا المؤذي لأولياء الله - والساعي في إذلالهم – من قول الله: "فقد آذنته بالحرب"؟! )[23]،  فقد يصيبه الله ببلية، أو يرزؤه بمرض، أو يفجعه بمهانة وذلة بعد عز، أو يسلط عليه عدواً، أو يعذبه بحبيب...! وما يعلم جنود ربك إلا هو " قال السدي رحمه الله: لم يبعث الله رسولاً قط إلى قومٍ فيقتلونه، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيُقتلون، فيذهب ذلك القرن؛ حتى يبعث الله لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا، قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يُقتلون في الدنيا، وهم منصورون فيها"[24] ولله در البقاعي رحمه الله؛ حين أخذ العبرة من قول الحق سبحانه: "ألم يجعل كيدهم في تضليل"  فقال: "وهذا مشير إلى أن كل من تعرّض لشيء من حرمات الله - كبيت من بيوته أو ولي من أوليائه أو عالم من علماء الدين وإن كان مقصراً نوع تقصير - وقع في مَكْرِه، وعاد عليه وبالُ شرِّه "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"[25]  إذا تبين هذا؛ فقد أخذ أهل العلم بمفهوم هذا الحديث فقالوا: "وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة؛ ثبت في جانب الموالاة: فمن والى أولياء الله أكرمه الله"[26]  اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، اللهم اجعلنا من أوليائك المتقين، ومن حزبك المفلحين، إنك سميع قريب.
    أن الله تعالى لا يتخلى عن أوليائه أو يتركهم فريسة لأعدائهم – ولو تأخّر هذا النصر وطالت مدّته - ؛ فهذه النصرة وهذا التأييد إنما هو مرتبط بسنن الله التي لا تتغيّر ولا تتبدّل، وسنّة الله اقتضتْ أن يمهل الظالمين دون إهمالٍ لهم، فإن تابوا وأنابوا، وزالت عداوتهم للصالحين، تاب الله عليهم، وإن أصرّوا على باطلهم، وتمادوا في غيّهم ، فإنّ الله يملي لهم  استدراجاً، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وبذلك ينتصر الله لأوليائه ، ويجعل العاقبة لهم، والغلبة على من عاداهم .
    لم يستطع المناوئين للفكر الصوفي أن يخمدوا من جذوته، رغم حملات التبديع والتكفير والزندقة، برغم الأذاية والتشكيك ظل الفكر التربوي الصوفي شامخا إلى يومنا هذا، ولا أدل على ذلك في زماننا لوجود نوع من العطش الروحي، والبحث عن السكينة و الطمانينة في زمن الصخب و الفوضى.
القسم الثاني:تعريف الولي
    
 من هو هذا الولي الذي تكفل الله بالدفاع عنه، وبأن ينتقم من أعدائه؟ لقد بين صاحب الشأن سبحانه في كتابه الكريم صفة أوليائه فقال:(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)[27]. فالإيمان والتقوى هما شرطا ولاية الحق سبحانه، فمن آمن بالله واتقاه؛ تولاه الله. ودل قوله: "وَكَانُوا يَتَّقُونَ" على أن التقوى ملازمة لهم؛ قال ابن عاشور: ( وقد كنت أقول في المذاكرات منذ سنين خلت في أيام الطلب : أن هذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه في تفسير حقيقة الولي شرعاً، وأن على حقيقتها يحمل معنى قوله في الحديث القدسي: "قال الله تعالى: مَنْ عَادَى لي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ  )[28].
      ليس كل من ادّعى الولاية، يعتبر وليا، بل هم رجال لهم دلائل وعلامات يعرفها أولى البصائر.. إنهم صفوة عباد الله، الذين ألبس قلوبهم ملابس العرفان، وخصهم من بين عباده بخصائص الاحسان، واستعدت قلوبهم لورود الأنوار العلوية .. لا تزال فى كل عصر منهم طائفة، قائمون بالحق، منحوا بحسن المتابعة رتبة الدعوة، وجعلوا للمتقين قدوة، من إقتدى بهم إهتدى، ومن أنكرهم ضل وإعتدى.
      فضلهم الله على الكافة من عباده، بعد رسله وأنبيائه، فهم الغياث للخلق والدائرون فى عموم أحوالهم مع الحق، صفاهم من أكدار البشرية، ورقاهم إلى محل المشاهدات، بما تجلى لهم من حقائق الاحدية، وأشهدهم مجارى أحكام الربوبية.
     فهم قوم علموا وعملوا، فتزكت نفوسهم، وانجلت قلوبهم، بما حفلت به من التقوى، فاتضحت لهم صور الاشياء، على حقيقتها، فبانت لهم الدنيا بقبحها فرفضوها، وظهرت لهم الآخرة بحسنها، فطلبوها..
    جاء فى القاموس المحيط ( الولى ): ( القرب والدنو والمطر بعد المطر )، و( الولى ): الاسم منه والمحب والصديق والنصير. والولاية: الامارة والسلطان . والمولى: المعتق ، والصاحب والقريب . والولى الرب والناصر والمحب)[29]. اهـ.
         قال الشيخ السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن: (والأولياء في الاصطلاح يراد بهم مَنْ سوى الأنبياء ، فيمكن أن يقال إن الولي هو: كل مؤمن تقي ليس بنبي. والإيمانُ عِندَ أهْلِ السُّنَةِ قَوْلٌ وَعَمَل، وهُو قَوْلًُ القَلْبْ وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح. وقَولُ القلبِ هُو الاِعتقَاد الجازِم، وعمله قيامه بالعبادات القَلبية كالإِخْلاصِ والمحَبةِ والخَوفِ والرَّجَاء. والتَّقوى: فِعْل مَا أمَرَ الله بهِ وَرَسُوله، وتَركِ مَا نهَى عَنه، وإذا قُرِنَتْ مَع البر (كانت التقوى اسماً لتوقي جميع المعاصي ، والبر اسماً لفعل الخيرات)[30]  اهـ.
    قال ابن فارس: (الواو واللام والياء أصل صحيح يدل على قرب . من ذلك الولْي: القرب. يقال : تباعد بعد ولْي، أي : بعد قرب . ومن الباب المولى : المعتِق والمعتَق والصاحب والحليف وابن العم والصاحب والجار، كل هؤلاء من الولْي وهو القرب ، وكل من ولي أمر آخر فهو وليه)[31].
  (والوَلاية : النصرة ، والوِلاية : تولي الأمر .  وقيل : الوِلاية والوَلاية نحو : الدِّلالة والدّّلالة ، وحقيقته : تولي الأمر ، والولي والمولى يستعملان في ذلك)[32].
وفي مقاييس اللغة: ((الولي: (القرب، والولي: المطر يجيء بعد الوسمي))[33]
قال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن: ((الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصر والاعتقاد.
 والولاية: تولي الأمر. والولي والمولى يستعملان في ذلك كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالي، وفي معنى المفعول أي الموالى، يقال للمؤمن هو ولي الله عز وجل ولم يرد مولاه)[34]. اهـ.
وذكر الشوكاني في فتح القدير أن الولي ((هو القريب))[35] اهـ.
     وذكر أبو الهلال العسكري الفرق بين الولي والمولى فقال: أن الولي يجري في الصفة على المعان والمعين ، تقول الله ولي المؤمنين أي معينهم، والمؤمن ولي الله أي المعان بنصر الله عز وجل، ويقال أيضا المؤمن ولي الله والمراد أنه ناصر لأوليائه ودينه، ويجوز أن يقال الله ولي المؤمنين بمعنى أنه يلي حفظهم .. ويجوز أن يقال معنى الولي أنه يحب الخير لوليه كما أن معنى العدو أنه يريد الضرر لعدوه)[36]. اهـ.
       فلعل الدلالة التامة والمفهوم الأعم لهذه اللفظة يكمن فيما أجمله داود القيصري حين يقول: (اعلم، ان الولاية، مأخوذة من الولي، بمعنى القرب، والقرب على قسمين: قرب الهوية الاهية إلى الأشياء كما أشر إليه بقوله: (وهو معكم أينما كنتم) و (أينما تولوا فثم وجه الله) و (نحن أقرب إليكم من حبل الوريد)، وقرب العبد إلى الحق في الكمالات والأخلاق.([37]. اهـ ، فى موضع آخر، يقول الشيخ داود القيصر يرحمه الله: ( وهي عطائية وكسبية . فالعطائية تحصل بالانجذاب إلى الحضرة الرحمانية قبل المجاهدة، والكسبية ما يحصل بالانجذاب إليها بعد المجاهدة ([38] اهـ.
  إذن فالمراد من كلمة ولي في القرآن الكريم في المدح وفي حال نسبتها إلي اللّه سبحانه وتعالي هو المحبة أو القرب أو الحماية والنصرة من الجانبين كما فى الحديث القدسى:( من أتانى يمشى أتيته هروله... الخ)، جانب المخلوق وجانب الخالق سبحانه وهي المعاني اللغوية لهذه الكلمة وتلك المعاني الثلاثة التي تدور فيها هذه الكلمة حينما يسمى بها الشخص، معان شامله لكل ما من شأنه أن يقرب إلى الله حسب المفهوم الشرعي للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وحسب روح الاسلام العامة التي جاءت فجعلت الناس سواسية لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
الولى فى الاصطلاح الصوفى :
  تناول عدد من علماء التصوف تعريف الولى نورد أقوال بعضهم: 
 يقول الكاشانى: (هو من توالت طاعاته من غير تخلل معصية ومن تولى الحق حفظه وحواسه على الدوام ، بتوفيقه وتمكينه وإقداره على فنون الطاعات وكرائم الإحسان)[39] اهـ.
     ويذكر لأبى سعيد الخراز أنه قال: ( إذا أراد الله تعالى أن يوالى عبدا من عبيده، فتح عليه باب القرب ثم رفعه إلى مجالس الأنس به، ثم أجلسه على كرسى التوحيد، ثم رفع عنه الحجب، وأدخله دار الفردانية وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذ وقع بصره على الجلال والعظمة، بقى بلا هو، فحينئذ صار العبد زمنا فانيا، فوقع فى حفظه سبحانه، وبرئ من دعاوى نفسه)[40]. اهـ
    ويذكر الهجويرى:((أن لفظ ولى شائع بين العامة، وهو موجود فى القرآن الشريف وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[41]. وقال فى موضع آخر: ) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )[42]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من عباد الله لعبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل: من هم يارسول الله ؟ صفهم لنا لعلنا نحبهم ؟ قال: قوم تحابوا بروح الله من غير أموال ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم تلا الآية: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[43] اهـ .
      وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"  إن الله تعالى قال : من آذى لى وليا فقد استحل محاربتى "، هذه الآيات الشريفة والأحاديث النبوية، تدلك على أن لله تعالى أولياء إختصهم بمحبته، وانتخبهم لأن يكونوا خلفاء منه فى ملكه وأظهرهم ليظهر لك عجائب قدرته، وأكرمهم بمختلف الكرامات، وخلصهم من طبائع نفوسهم، ونجاهم من إطاعة هوى أنفسهم، حتى صارت كل أفكارهم مشتغلة به سبحانه وتعالى وعلاقاتهم معه لا غير..))[44]. اهـ
      ويقول أبو القاسم القشيرى رضي الله عنه: ( الولى له معنيان: (أحدهما فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله سبحانه أمره، قال الله تعالى (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ )[45] فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى الحق سبحانه رعايته، والثانى فعيل مبالغة من الفاعل، وهو الذى يتولى عبادة الله وطاعته، فعبادته تجرى على التوالى من غير أن يتخللها عصيان، وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولى وليا))[46] اهـ.
وصف أولياء الله:
      وصف الله أوليائه في كتابه فقال:( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون)[47]، فوصفهم سبحانه بهذين الوصفين الإيمان والتقوى، وهما ركنا الولاية الشرعية، فكل مؤمن تقي فهو لله ولي.
     وهذا يعني أن الباب مفتوح أمام من يريد أن يبلغ هذه المنزلة العلية والرتبة السنية، وذلك بالمواظبة على طاعة الله في كل حال، وإخلاص العمل له ، ومتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الدقيق والجليل.
      يقول الهوجيرى ابو الحسن: (ولقد عرف مفهوم الولاية طريقه للتطور منذ قرون التصوف الأول. فكما جاء على لسان أحد المشايخ القرن العاشر وهو ابو علي السلمي : الأولياء يعرفون بلطافة اللسان و حسن الأخلاق و طراوة الوجه، و سخاء النفس، وقلة الأعتراض وقبول العذر، والشفقة على جميع الخلائق أخيارهم وشرارهم.)[48] اهـ.
    وصفهم نبي الله عيسى عليه السلام في الدنيا: (قال قال الحواريون  يا عيسى، من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى عليه السلام: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما يخشون أن يشينهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالا، وذكرهم إياها فواتا، وفرحهم بما أصابوا منها حزنا، فما عارضهم من نيلها رفضوه، وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، وخلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بيوتهم فليسوا يعمرونها، وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها بعد موتها، بل يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، ورفضوها فكانوا هم الفرحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات، وأحيوا ذكر الموت، وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله عز وجل، ويحبون ذكره، ويستضيئون بنوره، ويضيئون به، لهم خير عجيب، وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب وبه عملوا، وليسوا يرون نائلا مع ما نالوا، ولا أمانا دون ما يرجون، ولا خوفا دون ما يحذرون)[49] اهـ.
       و يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ( سبق المفردون " قالوا: وما المفردون ؟ يا رسول الله ! قال " الذاكرون الله كثيرا ، والذاكرات " )[50] ، لقوله تعالى: (  وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ([51].
   فكثرة ذكر الله هو السهل الممتنع سهل على المعظم المحب وصعب على اللاهي في دنياه وفي ملذاته الذاتية، ومن كانت أفئدتهم هواء ...لقوله تعالى:  ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء)[52] .
    يقول أبو الفرج أبن الجوزى: ( من أحب شيئا ، أكثر ذكره، و من أجلّ أمرا، أعظم قدره، ولا حبيب أحب من الله إلى أهل ولايته، ولا جليل أجل من الله عند أهل معرفته، فاذكروا الله ذكر المحبين، و أجلّوه إجلال العارفين)[53] اهـ.
   فالعالم العامل " العارف بالله" يديم الذكر تعظيماً لله ، ورغبة و رهبة وخشية أن يتحول الله عنه إن قصر في جنبه أو يحول بينه وبين قلبه لقوله تعالى: ( قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )[54] ، وقوله : ( َاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَيَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[55]. أما الولي الصالح فإنه يدمن الذكر تولهاً في حب الله لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ )[56].
    ويقول القطب الإمام  عبد السلام بن مشيش قدس سره في شرح التفرد بالله : ( وزُجَّ بي في بحار الأحَدِيَّة ، وانشُلني من أَوْحالِ التَّوحيدِ ، وأغرقني في عين بحْرِ الوَحدةِ ، حتى لا أرى ولا أسمَعَ ولا أَجِدَ ولا أُحِسَّ إلا بها )[57] اهـ.  يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم : (أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ)[58] .
   فدوام ذكر لا إله إلا الله يوصل إلى حقيقة الإقرار بالتوحيد، ثم الإدمان عليها يوصل إلى حقيقة القهر بواقع الوحدانية وهو التفريد عند الأولياء لصالحين، سأل سيدنا علي كرَّم الله وجهه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (يا رسول الله دلني على أقرب الطرق إلى الله، وأسهلها على عباده، وأفضلها عنده تعالى.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليك بمداومة ذكر الله سراً وجهراً"، فقال علي: كلُّ الناس ذاكرون فخصَّني بشيء ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، ولو أن السموات والأرضيين في كفة ولا إله إلا الله في كفة لرجحت بهم، ولا تقوم القيامة وعلى وجه الأرض من يقول: لا إله إلا الله"، ثم قال علي: (فكيف أذكر ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "غَمِّضْ عينيكَ واسمع مني لا إله إلا الله ثلاث مرات، ثم قلها ثلاثاً وأنا أسمع، ثم فعل ذلك (برفع الصوت)[59])[60] .
   يوضح عليه الصلاة والسلام حال المفردين قائلاً: ("سَبَقَ الْمُفْرِدُونَ "، قَالُوا: وَمَا الْمُفْرِدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " الْمُسْتَهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا")[61] .
     وعن ذي النون المصري قدس سره أنه قال: (عْلَمُوا أَنَّهُ لا يَصْفُو لِعَامِلٍ عَمَلٌ إِلا بِإِخْرَاجِ الْخَلْقِ مِنَ الْقَلْبِ فِي عَمَلِهِ وَهُوَ الإِخْلاصُ ، فَمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ لَمْ يَرْجُ غَيْرَ اللَّهِ، فَكُنْ وَكُنْ عَلَى عِلْمِ أَنَّهُ لا قَبُولَ لِعَمَلٍ يُرَادُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ ، فَمَنْ أَرَادَ طَرِيقَ التَّجْرِيدِ إِلَى الإِخْلاصِ فَلا يَدْخُلَنَّ فِي إِرَادَتِهِ أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَشَمِّرْ عَنْ سَاقِكَ وَاحْذَرْ حَذَرَ الرَّجُلِ أَنْ يُدْخِلَ فِي الْعَظَمَةِ لِلَّهِ تَعْظِيمَ غَيْرِ اللَّهِ ، وَاجْعَلِ الْغَالِبَ عَلَى قَلْبِكَ ذَلِكَ وَقَدْ صَفَا قَلْبُكَ بِالإِخْلاصِ)[62] . اهـ.
      فهؤلاء الطبقة من العباد انفردو بقربهم حتى خرقوا كل ترتيب ، ونزلوا منزلة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولهذا يقال يكذب من إدعى انه وصل فالوصل بالله والوصول إليه ، هى كلمات مجازية تشير إلى تمكن الصوفى من الصفاء القلبى، وقربه من الله وترقيه الدائم اليه، فمن هنا يكون كلام الصوفية فى الوصال والوصل والإتصال صحيحا ً، لكن القول بالوصول  لمقام ما فوقه مقام ونهايه ليس بعدها مطلب ... فهو وهم ، لأن فضل ليس له نهايه.
  مقام الولي:
    يقول الإمام الحكيم الترمذي[63] يصف مقام الولي قائلا: ((وأما ولي الله، فرجل ثبث في مرتبته، وافيا بالشروط كما وفى بالصدق في سيره، وبالصبر في عمل الطاعة، وإضطراره. فأدى الفرائض، وحفظ الحدود، ولزم الرتبة، حتى قوم وهذب ونقى وأدب وطهر وطيب ووسع وزكى وشجع وعوذ. فتمت ولاية الله له بهذه الخصال العشر.... قال قائل صف لنا خصال الولاية العشر التي تمت له الولاية الله بها: (نعم أقامة الله تعالى في المرتبة، على شريطة اللزوم لها، فلما وفّى بالشرط، ولم يبغ عملا في محل القربة نقله منها إلى عالم الجبروت، ليقوم بجبر نفسه ومنعها بسلطان الجبروت ، حتى ذلت و خشعت. ثم نقلها منها الى ملك السلطان، ليهذب ، فذابت تلك العزة التي في نفسه ، وهي أصل الشهوات ، فصارت بائنة عنها ثم نقله منها إلى ملك الجلال ليؤدب. ثم نقله منها إلى ملك الجمال ليفنى. ثم إلى ملك العظمة ليطهر. ثم إلى ملك الهيبة ليزكى ثم إلى ملك الرحمة ليوسع. ثم إلى ملك البهاء ليربى. ثم إلى ملك البهجة ليطيب. ثم إلى ملك الفردانية ليفرد. فاللطف يفرده، والرحمة تجمعه، والمحبة تقربه، والشوق يدنيه. ثم يهمله. ثم يناجيه.ثم يبسط له. ثم ينقبض عنه. فاينما صار فهو في قبضته، وأمين من امنائه. فاذا صار في هذا المحل ، فقد إنقطعت الصفات، و إنقطع الكلام و العبارات ، فهذا منتهى العقول و القلوب))[64] اهـ.
   ثم يقول رضي الله عنه فى موضع آخر: ( فرب ولي مقامه في أول ملك، وله من أسمائه ذلك الأسم. ورب ولي مقامه التخطي الى ملك ثان وثالث ورابع. فكلما تخطى إلى ملك أعطي ذلك الأسم. حتى يكون الذي يتخطى جميع ذلك إلى ملك الوحدانية  والفردانية. هو الذي يأخذ بجميع حظوظه من هذه الأسماء. وهو محظوظ من ربه . فهو سيد الأولياء ، وله ختم الولاية من ربه . فاذا بلغ المنتهى من أسمائه، فإلى اين يذهب؟ وقد صار إلى الباطن الذي إنقطعت عنه الصفات!([65] اهـ.
     ثم يقول في الفصل التاسع من كتابه: (ثم لما قبض الله عز وجل نبيه   صلى الله عليه وسلم صير في أمته أربعين صد يقا بهم تقوم الأرض وهم من آل بيته فكلما مات أحد منهم خلفه من يقوم في مقامه. حتى أذا إنقرض عددهم واتى وقت زوال الدنيا إبتعث الله وليا إصطفاه وإجتباه وقربه وآتاه واعطاه ما أعطى الأولياء وخصه بخاتم الولاية. فيكون حجة الله يوم القيامة على سائر الأولياء فيوجد عنده بذلك الختم صدق الولاية. على سبيل ماوجد عند محمد صلى الله عليه وسلم.([66] اهـ.
القسم الثالث:مرحلة " فاذا أحببته"
  الحب فى القران الكريم:
  احتوى القرآنُ الكريم على الصور الجنينية للحياة الروحية فى الإسلام، إذ أفصحت آياتُهُ، بقوة، عن رابطةٍ خاصة، متميِّزة؛ تجمع العبد بربه .. هى الحب والمحبة  .ومن بين أربعٍ وثمانين مرة، وردت فيها كلمة الحب ومشتقَّاتها فى القرآن؛ جاءت هذه الآياتُ مخبرةً عن حُبِّ الله لعباده، وحُبِّهم إياه قال عز من قائل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه…)[67]
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين)[68]
قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً)[69] ، وقال تعالى : (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)[70] ، وقال تعالى : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ)[71]
قال تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)[72]. وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[73]
    إن هذه الآية الاخيرة تدل على صدق محبة العبد لربه، إذ لا يتم له ذلك بمجرد دعوة قلبه أو لسانه فكم من أناس يدعون محبة الله بقلوبهم وألسنتهم: وأحوالهم تكذب دعواهم، فعلامة حب العبد لربه وحب الله لعبده طاعة رسول الله .والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم  .
الحب في السنة النبوية الشريفة:
   وردت الكثير من الاحاديث النبوية الشريفة تتحدث عن الحب والمحبة نذكر منها:
في حديث عبد الله بن هشام، رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء، إلا نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)) فقال عمر: والله لأنت أحب إلى من نفسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر))[74]
      وعن عائشةَ رضي اللَّهُ عنها، أَن رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، بعَثَ رَجُلاً عَلَى سرِيَّةٍ، فَكَانَ يَقْرأُ لأَصْحابِهِ في صلاتِهِمْ، فَيخْتِمُ بــ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا، ذَكَروا ذلكَ لرسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فقال: « سَلُوهُ لأِيِّ شَيءٍ يَصْنَعُ ذلكَ ؟ » فَسَأَلوه، فَقَالَ: لأنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فقال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: « أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّه تعالى يُحبُّهُ » [75]
     عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الانصار: ( لا يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ ، مَنْ أَحَبَّهُمْ أحبَّه اللَّهُ ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّه ) [76]
     قال صلى الله عليه وسلم: (( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قلنا: يا رسول الله ! كلنا يكره الموت ؟ قال :ليس ذلك كراهية الموت، ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله ، فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه ، وإن الفاجر أو الكافر إذا حضر جاءه ماهو صائر إليه من الشر، أو ما يلقى من الشر، فكره لقاء الله، فكره الله لقاءه )) [77].
     قال صلى الله عليه وسلم : (( إن رجلا زار أخا له في قرية، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا ، فلما أتى عليه الملك قال: أين تريد ؟ قال: أزور أخا لي في هذه القرية، قال: هل عليك من نعمة [تربها] ؟ قال: لا، إلا أني أحببته في الله، قال  فإني رسول الله إليك أن الله عز وجل قد أحبك كما أحببته له )) [78].
     عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا: (( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله  )) [79].
     عن أنس بن مالك قال: مر رجل بالنبي صلى الله عليه و سلم و عنده ناس، فقال رجل ممن عنده: إني لأحب هذا لله، فقال النبي صلى الله عليه و سلم:"أعلمته؟" قال: لا ، قال: " قم إليه فأعلمه " فقام إليه فأعلمه ، فقال: أحبّك الذي أحببتني له ثم قال، ثم رجع فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"أنت مع من أحببت، و لك ما احتسبت " [80].
   يمن المولى عز وجل على العبد الصالح بفضل كبير اذا أحبه. عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:( إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ)[81] .
      يقول ابن رجب الحنبلى: ((وفي المسند عن عمرو بن الجموح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يجدُ العبد صريحَ الإيمان حتى يُحِبَّ ويُبغِضَ لله، فإذا أحَبَّ لله وأَبْغَضَ لله فقد استحقَّ الولاية من الله وإن أوليائي من عبادي وأحبّائي من خَلْقي الذين يُذكَرون بذكري وأُذكَر بذكرهم )، وسئل المرتعش بم تنال المحبة قال بموالاة أولياء الله ومعادة أعدائه وأصله الموافقة. وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال: قال موسى عليه السلام: (يا رب من هم أهلك الذين هم أهلك تظلهم في ظل عرشك؟ قال: هم البرية أيديهم الطاهرة قلوبهم الذين يتحابون لجلالي الذين إذا ذكرت ذكروني وإذا ذكرت ذكرت بذكرهم الذين يسبغون الوضوء في المكاره وينيبون إلى ذكرى كما تنيب النسور إلى أوكارها ويكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حرب))[82]. اهـ.
     جاء فى جامع العلوم والحكم: ( قوله فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وفي بعض الروايات وقلبه الذي يعقل به ولسانه الذي ينطق به ..
المراد بهذا الكلام : أنَّ منِ اجتهدَ بالتقرُّب إلى الله بالفرائضِ ، ثمَّ بالنوافل ، قَرَّبه إليه ، ورقَّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان ، فيصيرُ يَعبُدُ الله على الحضورِ والمراقبة كأنه يراه ، فيمتلئُ قلبُه بمعرفة الله تعالى ، ومحبَّته ، وعظمته ، وخوفه ، ومهابته ، وإجلاله ، والأُنس به ، والشَّوقِ إليه ، حتّى يصيرَ هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة كما قيل :
ساكنٌ في القلب يَعْمُرُه ** لَسْتُ أنساهُ فأَذكُرُه
غَابَ عَنْ سمعي وعن بصري** فسُوَيدا القلب تُبصِرُه
قال الفضيلُ بن عياض : إن الله يقول : (( كذَب من ادَّعى محبَّتي ، ونام عنِّي ، أليس كل محبٍّ يُحبّ خلوة حبيبه؟ ها أنا مطَّلعٌ على أحبابي وقد مثَّلوني بين أعينهم، وخاطبوني على المشاهدة، وكلَّموني بحضورٍ، غداً أُقِرُّ أعينهم في جناني ))[83] .
ولا يزالُ هذا الذي في قلوب المحبين المقرَّبين يقوى حتّى تمتلئ قلوبُهم به ، فلا يبقي في قلوبهم غيرُه ، ولا تستطيع جوارحُهُم أنْ تنبعثَ إلا بموافقة ما في قلوبهم ، ومن كان حالُه هذا، قيل فيه: ما بقي في قلبه إلا الله، والمراد معرفته ومحبته وذكره، وفي هذا المعنى الأثر الإسرائيلي المشهور: (( يقول الله : ما وسعني سمائي ولا أرضي ، ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن ))[84] . وقال بعضُ العارفين: احذروه ، فإنَّه غيورٌ لا يُحبُ أنْ يرى في قلبِ عبده غيرَه، وفي هذا يقول بعضهم :
ليس للنَّاسِ موضِعٌ في فؤادي** زاد فيـه هواك حتَّى امتلا
وقال آخر :
قَدْ صِيغَ قلبي على مقدار حبِّهمُ** فما لِحبٍّ سواهم فيه مُتَّسعُ
وإلى هذا المعنى أشار النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في خطبته لما قدم المدينة فقال: (( أحبوا الله من كلِّ قلوبكم )) كما ذكره ابن إسحاق في " سيرته "[85]، فمتى امتلأ القلبُ بعظمةِ الله تعالى، محا ذلك مِنَ القلب كلَّ ما سواه، ولم يبقَ للعبد شيءٌ من نفسه وهواه ، ولا إرادة إلاَّ لما يريدهُ منه مولاه، فحينئذٍ لا ينطِقُ العبدُ إلاّ بذكره، ولا يتحرَّك إلا بأمره ، فإنْ نطقَ، نطق بالله ، وإنْ سمِعَ ، سمع به، وإنْ نظرَ، نظر به، وإنْ بطشَ، بطش به، فهذا هو المرادُ بقوله: (( كنت سمعه الذي يسمعُ به، وبصره الذي يُبصرُ به، ويده التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها ))[86]، ومن أشار إلى غير هذا، فإنَّما يُشير إلى الإلحاد مِنَ الحلول، أو الاتِّحاد، والله ورسولُه بريئان منه .
ومن هنا كان بعضُ السَّلف كسليمان التيمي يرون أنّه لا يحسن أن يعصي الله . ووصَّتِ امرأةٌ مِنَ السَّلف أولادها، فقالت لهم: تعوَّدُوا حبَّ الله وطاعته ، فإنَّ المتَّقين ألِفُوا الطّاعة ، فاستوحشت جوارحُهُم من غيرها، فإنْ عرض لهمُ الملعونُ بمعصيةٍ، مرَّت المعصيةُ بهم محتشمةً، فهم لها منكرون .
ومن هذا المعنى قولُ عليٍّ: إنْ كُنَّا لنرى أنَّ شيطان عمر ليهابُه أن يأمُرَه بالخطيئة[87]، وقد أشرنا فيما سبق إلى أنَّ هذا مِنْ أسرار التوحيد الخاصة، فإنَّ معنى لا إله إلا الله: أنَّه لا يؤلَّه غيرُه حباً، ورجاءً، وخوفاً، وطاع، فإذا تحقَّق القلبُ بالتَّوحيد التَّامِّ، لم يبق فيه محبةٌ لغير ما يُحبُّه الله، ولا كراهة لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك، لم تنبعثْ جوارحُهُ إلاّ بطاعة الله، وإنَّما تنشأ الذُّنوب من محبَّة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يُحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النَّفس على محبَّة الله وخشيته، وذلك يقدحُ في كمال التَّوحيد الواجبِ، فيقعُ العبدُ بسببِ ذلك في التَّفريط في بعض الواجبات، أو ارتكابِ بعضِ المحظوراتِ، فأمَّا من تحقَّق قلبُه بتوحيدِ الله، فلا يبقى له همٌّ إلا في الله وفيما يُرضيه به، وقد ورد في الحديث مرفوعاً: (( من أصبح وَهمُّه غيرُ الله، فليس من الله))[88]، وخرَّجه الإمام أحمد من حديث أبيِّ بن كعب موقوفاً قال: مَن أصبح وأكبر همِّه غيرُ الله فليس من الله . قال بعض العارفين : من أخبرك أنَّ وليه له همٌّ في غيره ، فلا تُصدِّقه .
كان داود الطائي يُنادي بالليل: (همُّك عَطَّل عليَّ الهمومَ ، وحالف بيني وبين السُّهاد، وشوقي إلى النَّظر إليك أوثق مني اللذات، وحالَ بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب)[89]، وفي هذا يقول بعضهم :
قالوا تشاغَلَ عنَّا واصطفى بدلاً** منَّا وذلك فعلُ الخائن السالي
       وكيف أشغلُ قلبي عن محبتكم** بغير ذِكركُم يا كُلَّ أشغالي[90] اهـ.
     ويروى أنَّ داود عليه السلام كان يقول: اللهمَّ اجعلني من أحبابك ، فإنَّك إذا أحببتَ عبداً، غفرتَ ذنبَه، وإنْ كان عظيماً، وقبِلْتَ عمله، وإنْ كان يسيراً، وكان داود عليه السلام يقول في دعائه: اللهمَّ إنِّي أسأَلُكَ حبَّكَ وحبَّ من يُحبُّك وحبَّ العمل الذي يُبلغني حُبَّك، اللهمَّ اجعلْ حُبَّكَ أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد)[91].
وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( أتاني ربي تبارك وتعالى - يعني: في المنام - فقال لي: يا محمد قُل: اللهمَّ إني أسألك حبَّك، وحُبَّ من يُحبُّك، والعمل الذي يُبلِّغُني حُبَّك ))[92] .
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (( اللهم ارزقني حبَّك وحبَّ من ينفعني حبُّه عندكَ ، اللهمَّ ما رزقتني مما أحِبُّ فاجعله قوَّةً لي فيما تُحِبُّ، اللهمَّ ما زَويتَ عني مما أحبُّ فاجعله فراغاً لي فيما تُحِبُّ ))[93] .
ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يدعو: (( اللهمَّ اجعل حُبَّك أحبَّ الأشياءِ إليَّ ، وخشيتَك أخوف الأشياء عندي، واقطع عنِّي حاجاتِ الدُّنيا بالشَّوق إلى لقائك، وإذا أقررتَ أعيُنَ أهل الدُّنيا من دنياهم ، فأقرِرْ عيني من عبادتك ))[94] .
فأهلُ هذه الدرجة مِنَ المقرَّبين ليس لهم همٌّ إلاَّ فيما يُقرِّبُهم ممن يُحبهم ويحبونه، قال بعضُ السلف: العمل على المخافة قد يُغيِّرُه الرجاءُ، والعملُ على المحبة لا يَدخله الفتورُ، ومن كلامِ بعضهم: إذا سئم البطَّالون من بطالتهم، فلن يسأم محبُّوكَ من مناجاتك وذكرك.
قال فرقد السَّبَخي: قرأتُ في بعض الكتب: من أحبَّ الله، لم يكن عنده شيءٌ آثَرَ من هواه ، ومن أحبَّ الدُّنيا، لم يكن عنده شيءٌ آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أميرٌ مؤمَّر على الأمراء زمرته أول الزمر يومَ القيامة، ومجلسه أقربُ المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولنْ يسأم المحبُّون من طول اجتهادهم لله تبارك وتعالى يُحبُّونه ويحبُّون ذكرَه ويحببونه إلى خلقه يمشون بين عباده بالنصائح ، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائحُ، أولئك أولياءُ اللهوأحباؤه، وأهلُ صفوته ، أولئك الذين لا راحةَ لهم دُونَ لقائه .
وقال فتح الموصليُّ: المحبُّ لا يجد مع حبِّ الله تبارك وتعالى للدنيا لَذَّةً، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عينٍ .
وقال محمدُ بن النضر الحارثي: ما يكادُ يملُّ القربةَ إلى الله تعالى محبٌّ لله تبارك وتعالى ، وما يكاد يسأمُ من ذلك .
وقال بعضهم: المحبُّ لله طائرُ القلب ، كثيرُ الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيلٍ يقدر عليها من الوسائل والنوافل دَوباً دَوباً ، وَشوقاً شوقاً ، وأنشد بعضهم :
وكُنْ لِرَّبك ذا حُبٍّ لِتَخْدمه** إنَّ المحبين للأحبابِ خُدَّامُ
وأنشد آخر :
ما للمُحِبِّ سوى إرادةِ حُبِّه** إنَّ المحبَّ بكلِّ برٍّ يَضرَعُ
ومن أعظم ما يُتقرَّب به العبد إلى الله تعالى مِنَ النَّوافل: كثرة تلاوة القرآن، وسماعهُ بتفكُّر وتدبُّرٍ وتفهُّمٍ ، قال خباب بن الأرت لرجل: تقرَّب إلى الله ما استطعتَ، واعلم أنَّك لن تتقرب إليه بشيءٍ هو أحبُّ إليه من كلامه)[95] .
وفي " الترمذي " عن أبي أُمامة مرفوعاً: (( ما تقرَّب العبادُ إلى الله بمثل ما خرجَ منه ))[96] يعني القرآن، لا شيءَ عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذَّةُ قلوبهم، وغايةُ مطلوبهم . قال عثمان: لو طَهُرَتْ قلوبُكم ما شبعتُم من كلام ربكم)[97]. وقال ابنُ مسعود: من أحبَّ القرآن فهو يُحب الله ورسوله)[98] .
قال بعضُ العارفين لمريدٍ: أتحفظُ القرآن ؟ قال: لا، فقال: واغوثاه بالله ! مريد لا يحفظ القرآن فبم يتنعم ؟ فبم يترنم ؟ فبم يُناجي ربه تبارك وتعالى ؟
كان بعضُهُم يُكثِرُ تلاوة القرآن ، ثم اشتغل عنه بغيره ، فرأى في المنام قائلاً يقول له :
إن كُنتَ تَزعُمُ حُبِّي** فَلِمَ جَفوتَ كِتابي
أما تأمَّلتَ ما فيـ** ـهِ مِنْ لَطيفِ عِتابي
ومن ذلك : كثرةُ ذكر الله الذي يتواطأ عليه القلبُ واللسان. وفي " مسند البزار " عن معاذٍ، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بأفضل الأعمال وأقربها إلى الله تعالى ؟ قال: (( أنْ تموت ولسانُك رَطْبٌ من ذكر الله تعالى ))[99] .
وفي الحديث الصحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (( يقول الله تبارك وتعالى : أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكُرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرتُه في نفسي، وإنْ ذكرني في ملإ ، ذكرته في ملإٍ خيرٍ منهم ))[100]. وفي حديث آخر: (( أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرَّكت بي شفتاه))[101]. وقال تبارك وتعالى: ( فاذْكُرُوني أذكُركُم )[102]  .
ولما سمع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الذين يرفعون أصواتهم بالتَّكبير والتَّهليل وهُمْ معه في سفر، قال لهم: (( إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً ، إنَّكم تدعون سميعاً قريباً، وهو معكم ))[103]. وفي رواية : (( وهو أقرب إليكم مِنْ أعناقِ رواحِلكم ))[104] .
ومن ذلك: محبةُ أولياء الله وأحبائه فيه، ومعاداة أعدائه فيه، وفي" سنن أبي داود "  عن عمر رضى الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (( إنَّ من عباد الله لأُناساً ما هُم بأنبياء ولا شُهداءَ ، يغبطُهم الأنبياءُ والشُّهداءُ بمكانهم من الله تبارك وتعالى ))، قالوا: يا رسول الله، مَنْ هم؟ قال: (( هُمْ قومٌ تحابُّوا بروحِ الله على غيرِ أرحامٍ بينهم، ولا أموالٍ يتعاطَوْنَها، فوالله، إنَّ وُجُوهَهم لنورٌ، وإنَّهم لعلى نور، لا يخافون إذا خافَ النَّاسُ، ولا يَحزَنُون إذا حزن الناس ))[105]، ثم تلا هذه الآية: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )[106]. ويروى نحوه من حديث أبي مالك الأشعري عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه: (( يَغبِطُهم النَّبيُّون قربهم ومقعدهم منَ اللهِ تبارك وتعالى ))[107] .
    وفي " المسند " عن عمرو بن الجموح، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (( لا يجدُ العبدُ صريحَ الإيمان حتّى يُحبَّ لله ويُبغِضَ لله، فإذا أحبَّ لله، وأبغض لله ، فقد استحقَّ الولايةَ من الله، إنَّ أوليائي من عبادي وأحبَّائي مِنْ خلقي الَّذين يُذكَرون بذكري، وأُذْكَرُ بذكرهم ))[108].
       وسُئل المرتعش: بم تُنال المحبة ؟ قال: بموالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه)[109] اهـ.، وأصله الموافقة .
 وفي " الزهد "  للإمام أحمد عن عطاء بن يسار، قال: قال موسى عليه السلام : يا ربِّ، مَنْ هُمْ أهلُك الذين تُظلُّهم في ظلِّ عرشك؟ قالَ: يا موسى، هُمُ البريئة أيديهم، الطَّاهرةُ قلوبهم، الَّذين يتحابُّون بجلالي، الذين إذا ذكرت ذكروا بي، وإذا ذكروا ذكرت بذكرهم، الذين يُسبغون الوضوء في المكاره، ويُنيبون إلي ذكري كما تُنيب النُّسور إلى وكورها، ويكْلَفُون بحُبِّي كما يَكلَفُ الصبيُّ بالنّاس، ويغضبون لمحارمي إذا استُحِلَّت، كما يغضبُ النَّمِرُ إذا حَرِبَ)[110])[111] اهـ.
  الولي من ذكر او انثى الذي احب الله وتقرب اليه وابتلي وصبر وداوم بالنوافل حتى احبه الله، باتباع:
اداء الفرئض واجتناب النواهى : -
   جاء فى الحديث: (وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)،  شرف النبي صلي الله عليه وسلم من قبل الله بأنه عبده عليه الصلاة والسلام ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)[112].
     والمؤمن يتشرف بعبودية الله جل وعلا كلما تقرب إلي الله سبحانه وتعالي بهذه العبودية... وقال وما تقرب إلى عبدى بشئ  أحب إلي مما افترضته عليه يعني الأشياء المفروضة الواجبة على الإنسان أداء الفرائض أحب القربات الى الله تعالى، لأن فى أدائها إمتثالاً للأمر، وهو مظهر الطاعة، وإظهار لذل العبودية وعظمة الربوبية، ولا ينافى أنها أعظم القربات إلى الله تعالى، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه لأن الله ما فرض هذا الشيء الواجب إلا لأنه أعظم محبة لله سبحانه وتعالي أركان الصلاة، أركان الإسلام، الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، الواجبات الأخرى، بر الوالدين صلة الأرحام، القيام بحقوق الأسرة تربية الأولاد، التعامل مع الناس بالتعامل الواجب الحسن، كل هذه الواجبات هذه المفروضة من الله عز وجل العامل الأول في محبة الله جل وعلا طبعا هذه للمؤمن يعني بعد الإيمان بالله عز وجل، أما إذا كان غير مؤمن لو صلي من اليوم إلي يوم القيامة لا تنفعه صلاته ما دام غير مؤمن، فإذن بعد الإيمان الفرائض أن يقوم بها الإنسان لا يتساهل بها مهما كانت الظروف.
    ومن هنا، فليس أداء الفرائض مسقط للعقوبة فقط، فمن أدى الفرض بروح الاخلاص، كان له من الثواب على جانب النجاة من العقاب ما يتكافأ مع نيته وروحه.
     وهذه الفرائض منها ما هى ظاهره  ومنها ماهى باطنه وإن أداء الباطنه، والإمتثال لأمر الله فيها لاتقل ضرورته عن أداء الظاهرة بل إن أثر الباطنه فى حياة الإنسان يكاد يكون أبعد اثراً من الظاهرة ولذا سوف نفصل فيها قليلاً : -
1 – اخلاص النيه فى اداء الأعمال، التى تترتب على صحتها والمرجع فى ذلك هو حديث ( الاعمال بالنيات ولكل أمرء مانوى .. ) وغيره من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى تحض على الإخلاص وتنهى عن الرياء .
    بالنية يتحدد السفر، وتتضح الواجهة، وبحسب النية تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة. يقول الله جل وعلا: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ )[113]، قال تبارك وتعالى: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)[114]، وقال جل وعلا: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)[115] .
    ومن نوى الشر وعمل بمقتضى تلك النية حرم التوفيق، وحالفه الخذلان والهوان، وإن بدا غير ذلك فإنما هو سراب أو أحلام لا تلبث أن تنقشع فيظهر المستور، يقول الله جل وعلا: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً)[116].
     ويقول الله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ.... )[117].
    وقال تبارك وتعالى: ( وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)[118]، فانو الخير واعمل بمقتضى تلك النية فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير، (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى)[119]
   2 – البعد عن سوء الظن غير المشروع، وعن الحسد والتباغض والتدابر، وبالاجمال كل ماجاء فى الحديث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: (إيَّاكُمْ والظَّنِّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ..)[120] الى اخر مانهى عنه من المعاصى الباطنه.
    من المبادئ المهمة في التعامل بين المسلمين إحسان الظن بهم، الأصل في المسلم الستر والصيانة حتى تظهر منه الخيانة لكن من الناس من منظاره أسود، أفهام الناس عنده سقيمه ومقاصدهم سيئة، كلما سمع من إنسان خيرا كذبه، وكلما ذكر عنده أحد بخير طعن فيه وجرحه .
       علينا أن نطرح سوء الظن واتباع الهوى فاتباع الهوى يفرق ويشتت ويمزق لأن الحق واحد والأهواء بعدد قلوب الخلق: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[121]، فخير لك إن أردت النجاة على الطريق أن تسيء الظن بنفسك لا بالمسلمين لأن حسن الظن بالنفس يمنع كمال التفتيش عن عيوبها ويلبس عليك مثالها فترى المساوئ محاسنا والعيوب كمالا.
3 – البعد عن الكبر والعجب وقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر [122](.
     يقول الشيخ علي بن عبد الخالق القرني:  (( أحذر العجب والتعالي والغرور فهو دليل السفه ونقص العقل ودنو النفس لا يزال الشيطان بالإنسان إلى أن ينظر إلى نفسه وعمله نظرة إعجاب وغرور وإكبار فيقول له: أنت فعلت وفعلت حتى يلقي في روعه أنه لا مثيل له ولا نظير له فيعجب بنفسه فيغتر فيهلك وهو لا يشعر، ثم يتوقف عن العمل فيشقى، لأن السعادة إنما تدرك بالسعي والطلب والمعجب يرى أنه وصل فلا حاجة للسعي فيقضي العمر كله وهو يراوح مكانه لا يتقدم لمكرمة ولا يرتقي لمنزلة .
     عند ذلك يرفض الحق ويحتقر الخلق ويداوم تزكية النفس أمام الخلق ويفرح بعيوب أقرانه من الخلق ثم يستعصي على النصح ولا يعترف بجهود الآخرين يداوم الحديث عما ينجزه من أعمال ويرفض الرجوع عن الخطأ ويحاول تبرير الخطأ ويستبد برأيه فرأيه صواب لا خطأ فيه لا يستشير أهل التجارب العقلاء ولا يستنير بآراء الأكياس الفطناء يهتم بشواذ المسائل وغريبها ويهمل العمل بأصول المسائل ثم يرفض الجلوس للتعلم في حلقات العلم .
ألجّ لجـاجـاً من الخنفســاء ...... وأزهى إذا ما مشى من غراب
هو الغريق فما يخشى من البلل ...... جذ السنام له وجذ الغارب
فحاله يا له من حال: كالصخرة الصماء الضخمة على القمة والسفح تغادرها خيرات السماء حتى تجتمع في الأرض المنخفضة .
   يحرم المعجب من توفيق الله فالخذلان موافق له ومصاحب له : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)[123]
   وتبعا لذلك ينال غضب الله ومقته . ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)[124].
وثبت أيضا : (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو عُمَرَ الْيَمَامِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ، أَوِ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ " .البخارى ، ثم ينهار المعجب وقت المحنة والشدة لأنه لم يحفظ الله في الرخاء فجدير بأن يخذل وقت المحنة كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما المشهور: (تعرَّف إلى الله في الرَّخاء، يعرفكَ في الشِّدَّةِ)، والمعجب عرضة لإنتقام الله العاجل والآجل (بيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي في حُلَّةٍ تُعْجِبُه نفْسُه ، مرَجِّلٌ رأسَه ، يَخْتَالُ في مَشْيَتِهِ ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ ، فهو يَتَجَلْجَلُ في الأَرْضِ إلى يوْمِ القِيامةِ)[125] .
بعض أسباب وبواعث العجب:
أ- انحراف المربي في هذا الجانب إذ يلمس منه حب المحمدة ودوام تزكية النفس بالحق أو بالباطل فيتأثر به تحت يده .
ب- ثم المدح في غير ضوابطه الشرعية بأن يكون بالحق وغير مجاوز للحد ومع من لا تخشى عليه الفتنة .
ج- ثم صحبة المعجبين والمرء على دين خليله والصاحب ساحب – كما قيل- .
د- ثم الصدارة قبل النضج والتربية فالتفقه في دين الله ضرورة قبل الصدارة( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[126]. وقد يكون السبب عراقة الأصل والنسب لبعض العاملين فتحمله على استحسان ما يعمله مع أن النسب لا يقدم ولا يؤخر ( كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[127]. ( لينتهين أقوتم يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من العجلان )[128].
     وبعد هذا كله فإني أعرض عليك نقاطا عدة لعل فيها العلاج لمن أصيب بهذا الداء عافانا الله وإياكم منه.
أولاً: العلم واليقين بأن المنة لله عز وجل فيما أعطيته من مواهب وقدرات والله قادر أن يسلبكها ما بين غمضة عين وانتباهتها ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[129].( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ َ)[130].
ثانيا: دوام حضور مجالس العلم والعلماء تلميذاً فإن في ذلك تطهير للنفس من ذلك الداء وتعريفا لها بقدرها وذلك هو الدواء.
مجالسة العلماء طيب، ولو كنت تاجرا ما اخترت غير الطيب، إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه، فاعلم وعِ:
ثالثا: خدمة من هم دونك علما ومرتبة وقدرا ومجالستهم ومؤاكلتهم وشعارك: مسكين بين ظهراني مساكين، فمن وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره.
رابعا: النظر إلى من هم فوقك علماً ومنزلة وعملا ورأياً وتفكيرا ( إن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ، وإن أعجبت برأيك فتـفكر في سقطاتك فاحفظها ثم أنظر إلى من هو أعلى منك رأيا، وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه هبة من الله وانظر إلى من هو أعلى منك علماً وفوق ذي كل علم عليم).
خامسا: تأمل عيوب نفسك ثم جد في محاسبتها أولاً بأول وأنت أعرف بنفسك، ( كل منا يصف أواني بيته ومحتوياته ورب البيت أدرى بما فيه وأهل مكة أدرى بشعابها والصيرفي أعرف بنقد الدينار )، ( إن خفيت على المرء عيوبه حتى ظنّ ألا عيب فيه فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه أتم الناس نقصا وأعظمهم عيوبا وأضعفهم تميزا –كما يقول ابن حزم- فالعاقل من ميز عيوب نفسه وجاهدها وسعى في قمعها والأحمق من جهل عيوب نفسه ).
    وأحمق منه من يرى عيوبه خصالاً يعجب بها . من أنت؟ هل أنت إلا عبد مكلف موعود بالعذاب إن قصر مرجو بالثواب إن ائتمر مؤلف من أقذار مشحون بأوضار سائر إلى جنة إن أطاع وإلا نار – أجارك الله من النار-.
وأتم الناس أعرفهم بنفسه كما قيل:
سادسا: اجلس دائما حيث ينتهي بك المجلس فذلك أدعى لكسر نخوة النفس وعجبها واتباع للسنة وأنعم بها خلة.
            إذا لم يكن صدر المجالس سيدا ........ فلا خير فيمن صدرته المجالس
سابعا: إن التعويل على رحمة الله لا على العمل فحسب يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما جاء في صحيح البخاري : ( لن ينجى أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
ثامنا: تعويد النفس على الفرار من الشرف حتى تعتاده فمن فر منه وهب له ومن تواضع لله رفعه ومن تكبر وضعه .
تاسعا: الاستعانة بالله واللجوء إلى الله أن يطهرك من هذه الآفة ومن استعان بالله أعانه الله.
عاشرا: المجاهدة: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[131]
حادي عشر: أحذر أنا، لي ، عندي يقول ابن القيم : ( وليحذر كل الحذر من طغيان أنا ولي وعندي فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلى بها إبليس، وفرعون، وقارون، فأنا خير منه لإبليس، ولي ملك مصر لفرعون، وإنما أوتيته على علم عندي لقارون، وأحسن ما وضعت أنا في قول العبد أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر ونحوه، ولي في قوله لي الذنب ولي الجرم ولي المسكنة ولي الفقر والذل وعندي في قوله : أغفر لي جدي وهزلي وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي.
ثاني عشر: إذا أعجبت بمدح إخوانك ففكر في ذم أعدائك إياك، فإن لم يكن لك عدو فوالله لا خير فيك فلا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له فليست إلا منزلة من ليس لله عنده نعمة يحسد عليها عافانا الله اياكم – كما يقول ابن حزم رحمه الله- .
ثالث عشر: التدبر والنظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعدهم ففيهما لمن تدبر عظة وذكرى، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم وخير من دب على الثرى وهو الأسوة أنه كان يجلس على الأرض. ويأكل على الأرض . ويعتقل الشاة . ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار. ويقول: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، ويقف بين يديه رجل يرعد كما ترعد السعفة فيقول : هون عليك فإنما انا إبن إمرأة من قريش كانت تأكل القديد . يمر بالصبيان ويسلم عليهم.
قسم التواضع في الأنام جميعهم ........ فذهبت أنت فقدته بزمامه
صلوات الله وسلامه عليه، يقول أنس: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت. كان يكون في مهنة أهله فإذا حضر وقت الصلاة خرج إلى الصلاة . كان يخيط ثوبه ويخصف نعله . ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم. وإذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده . لا يأنف صلى الله عليه وسلم أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة، وكان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم . ويعود مرضاهم. ويشهد جنائزهم يدعونه إلى خبز الشعير فما يردهم كما ثبت ذلك كله عنه .
      ويأتي من بعده كوكبة من أتباعه الذين رباهم صلوات الله وسلامه عليه لينهجوا نهجه ويستنوا بسنته فإذا أنت بخير من دب على الأرض بعد الأنبياء والمرسلين: أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه يبعث وينفذ جيش أسامة ضاربا بكل مثبط عرض الحائط ليخرج في وداعه ما شيا وأسامة راكب يقول أسامة : يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن فيقول: والله لا ركبت ولا نزلت وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة فإن شئت أن تعينني بعمر بن الخطاب فافعل ثم يقولها أخرى : لو يعلم الناس ما أنا فيه أهالوا عليَّ التراب.
عضب العزيمة في المكارم لم يدع .............. في يومه شرفا يطالبه غدا
   وروى الفاروق: ( أنه لقيه أحد الصحابة وهو يحمل قربة على عاتقه فقال له يا أمير المؤمنين أغناك الله وأرضاك وخولك وأعطاك فما يحملك على ما أنت فيه قال: إن ما تقوله حق لكن لما جائتني الوفود سامعة مطيعة دخلتني نخوة فأردت أن أكسر تلك النخوة في قلبي ثم مال بالقربة إلى حجرة أرملة من الأنصار فأفرغها في جرارها.
    ثم ينادي عمر يوماً : الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس وكثروا قالوا: الأمر خطب عظيم. صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: (أيها الناس لقد رأيتني وأنا أرعى غنيمات لخالات لي من بني مخزوم على قبضة من تمر أو قبضة من زبيب فأظل يومي وأي يوم وأستغفر الله لي ولكم ثم نزل من على المنبر فقال ابن عوف رضي الله عنه : ويحك يا أمير المؤمنين ما زدت على أن قمئت نفسك وعبتها أمام الرعية فقال: ويحك يابن عوف لقد خلوت بنفسي فحدثتني وقالت : أنت أمير المؤمنين من ذا أفضل منك فأردت أن أذلها وأعرفها قدرها ).
     وأخرج أبو نعيم في الحيلة عن الحسن قال: رأيت عثمان  رضي الله عنه نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين .
       ويخرج ابن عساكر عن زاذان أن عليا رضي الله عنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة يرشد الضال وينشد الضال ويعين الضعيف ويمر البياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويرد في (صفوة الأخبار) أنه اشترى لحما بدرهم فحمله في ملحفة فقال له رجل أحمل عنك يا أمير المؤمنين قال: لا أبو العيال أحق أن يحمله، (ما تواضع أحد الله إلا رفعه).
    وخالد ...ما خالد؟! أعني ابن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ما هزم في جاهلية ولا إسلام، وهو في اوج انتصاراته ( يأتيه خبر عزله من قبل أمير المؤمنين عمر عن قيادة الجيش لمصحة رآها أمير المؤمنين فيقول خالد : والله لو ولىّ عليَّ أمير المؤمنين عمر عبداً أسود اللون لسمعت له وأطعت ما دام يقودني بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) .
     وقيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لو أوصيت بدفنك بجوار عمر رضي الله عنه في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: والله لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إليَّ من أن أرى نفسي أهلا لتلك المنزلة، (اللهم إن عمر ليس أهلاً لأن ينال رحمتك لكن رحمتك أهل أن تنال عمر).
     ويأتيك الإمام مالك يبرق بثوب التواضع يرفل عزا فيقول: ما رأيت مسلما إلا ظننت أنه خير مني .
      على هذا سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحون من بعدهم لم يتسلل العجب إلى نفوسهم ولم يدخل الغرور إلى قلوبهم تواضعوا لله فرفعهم الله في الدنيا وفي الآخرة يكرمهم بإذن الله (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)[132]
                         بتـنا نعيش على كرام فعالهم ........... هيهات ليس الحر كالمستعبد
اين الجبال من التلال أوالرَُبا .......... أين القوي من الضعيف المقعد
لا القوم منا لا ولا أنا منهم ........... إن لم أفقهم في العلا والسؤدد
إلى من عمى في شمس نهاره، وعثر في ذيل اغتراره، وسقط سقوط الذباب على الشراب، وتهاتف تهاتف الفراش على الشهاب إن العجب أكذب ومعرفة النفس أصوب- كما قيل- ولا شيء والله أنفع لها من الافتـقار إلى باريها .
4 – الصدق البعد عن النفاق : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له وجهان فى الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار )[133].
5 – الأمانة والبعد عن الخيانة ، فقد وردت الاحاديث بانها من خصال النفاق .
6 – المحبه ، والبغض ، والكراهية : فيحب الخير ولايحبه الا لله ويبغض الشر ولايبغضه إلا لله))[134] اهـ.
        وترك المعاصى من أعظم فرائض الله، ولا خلاف فى ان  الله افترض على العباد ترك كل معصية كائنه ما كانت ، فكان ترك المعاصى من هذه الحيثيه ، داخلاً تحت عموم قوله:      ((وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)) .
     اهتم القرآن الكريم بالسمو بغرائز الانسان، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم المحمود منها والمذموم، وميز الخبيث من الطيب، ونبه على ان شأن الاعمال الباطنة أهم ، لأن الباطن أصل الاستقامة، ومنبع الصلاح والفساد، لجميع الاعمال.
    أن المطلوب استقامة الجوارح، انما هو حصول آثار الاستقامة فى النفس، ثم يتوالى أثر ذلك على الجوارح، مرة بعد أخرى، حتى تتمكن منها الهداية، وتصدر عنها الاستقامة فى جميع أعمالها، فى غير تكلف.. وأساس ذلك التقوى، وهى اجتناب كل ما يخاف منه ضررا فى دينك.. فاجعل همتك أن تحفظ قلبك من الميل الى غير الله تعالى، وبطنك من الفضول، ولسانك من اللغو، وعينك عن النظر الى ما لايعنيك.
فعل النوافل والاستكثار منها :
(وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ)
 العامل الثاني لزيادة محبة الله عز وجل كما قال في الحديث: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِل حَتَّى أُحِبَّهُ)، يعني النوافل كل ما زدت منها ازددت قربا من الله عز وجل ومحبة من الله لك لأن هذه مما يحبها الله سبحانه وتعالي، فإذا تزودت من هذه المستحبات، والمستحبات مساحة كبيرة لا حصر لها من باب الصلوات، باب الصيام، باب الزكاة والإنفاق، باب القراءة والذكر والدعاء، نفع الآخرين، وهكذا فكلما تقرب الإنسان إلي الله زاد محبة حتى يصل إلي أعلاها.
      وتختلف النوافل باختلاف ثوابها فما كان ثوابه أكثر كان فعله أفضل وتختلف إيضاً بإختلاف ماورد فى الترغيب فيها : فبعضها قد يقع الترغيب فيه ترغيباً مؤكداً .
      بمعنى دوام ولو على القليل، قليل دائم خير من كثير منقطع، والديمومة والاستمرار في العطاء تجعل العمل وإن كان ضئيلا أصيلاً مستطاعا مذللاً يقام به في عير ما عناء، ليس المهم قدر العمل بل الإستمرار في أدائه، فالقطرة الدائمة تصبح سيلاً عظيماً وهذا النوع من النوافل يسمى بالاوراد.
     والاوراد فى معناها اللفظى كثرة ذكر الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم والمداومة على هذه الكثرة فى ذلك أو فى قراءة شئ من القرآن أو فى دعاء ، والآيات والأحاديث فى الحث على كثرة الذكر لاحصر لها.
الله تعالى بحكمته ورحمته لم يكلف الناس من العبادات والطاعات والتشريعات ما لا يطيقون، بل كلفهم بما يستطيعونه ويقدرون عليه، قال تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)[135]، قال تعالى :(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[136].
     والأوراد تنقسم إلى قسمين أساسيين هما كما قسمها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم :
    1 – أوراد السير إلى الله وتتمثل فى الذكر بالإسم الإلهى .
    2 – الأحزاب ويقرؤها المريدون للتحصينات وقضاء الحوائج .
  والأصل فى الأوراد آيات عديدة نذكر بعضها على سبيل الإختصار منها قوله تعالى: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)[137]. وقوله تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * وَمِنَ الَّيلِ فَاسجُد لَهُ وَسَبِّحهُ لَيلًا طَويلًا)[138] وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)[139]، وقوله تعالى: (كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )[140].
      والورد إجمالاً هو إقامة الطاعات فى الأوقات .. ويقول العلامة الصاوى: (( أوراد العارفين لاتخلو من كونها من الكتاب والسنة أو الفتح الإلهى، ولذلك ولذلك تقدم على غيرها .. وإجماع الخير من الصالحين الذاكرين فيه الكفاية على الاتباع لقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )[141])[142] .
    إن الكثير منا ليشعر بالتقصير ويؤنبه ضميره دائما لتقصيره في العبادات والتقرب من الله الطاعات فتأتيه مشاعر صادقة بعد موجة الندم تلك فنجده قد التزم بالأعمال الصالحة الكثيرة , فهو قد ألزم نفسه بالصوم المتواصل والقيام الدائم والذكر الكثير، ولكنه وللأسف ما إن يمضي بعض الوقت إلا ونجده قد خفت همته وبدأ حماسه يقل وهذه آفة قد تعتري البعض منا, فما يأتي فجأة يذهب فجأة كما قيل، وهنا يقال لا ينبغي لمن كان يعمل صالحاً أن يتركه؛وليحرص علىمداومته لتلك الأعمال الصالحة ولو كانت تلك الأعمال قليلة، فقليل دائم خير من كثير منقطع .
عن عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ:قَالَ لِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَا عَبْدَ اللهِ ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ. [143](
وعن الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ . قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلّ . قَالَ : وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ)[144]..
    فمن استغفر الله في اليوم مائة وخمسين مرة ومائة و سبعين مرة في يوم آخر ومائة مرة في غيرها من أيامه ، فالمائة التي داوم عليها هي أحب الأعمال إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدر الذي لم يداوم عليه ذكر محبوب ومن داوم على المائة مرة من أول الأمر فقد أتى العمل الأحب إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وقس على ذلك في التهليل والتسبيح والتكبير والصلاة على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل أعمال البر . وهذا التحديد موكول إلى كل عامل بحسب ما يرى مما لايشق عليه والناس في ذلك تتفاوت استطاعاتهم وهممهم.
   قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اكْلُفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا)[145].. ،  فوكل صلى الله عليه وسلم كلا إلى طاقته وهو بها أعرف ، فمن حدد لنفسه قدرا من العبادة (النافلة طبعا) أو ذكرا مما رغبت فيه السنة المطهرة وبعدد معلوم تسهل المداومة عليه وداوم عليه فقد نص صلى الله عليه وسلم على أنه قد جاء بأحب الأعمال إلى الله عز وجل. ومن وافقت طاقته طاقة أخ له فعمل مثل عمله مختارا فلا حرج عليه ، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا قال تعالى في سورة المائدة: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ).
    إنَّ من أعظم ما يتقرَّب به العبد إلى الله تعالى من النَّوافل كثرة تلاوة القرآن وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم، وقد رغبَّت السنة النبوية في تلاوة القرآن الكريم وتعهّده وتدبره آناء اللَّيل وأطراف النَّهار، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((تَعاهَدُوا هذا القرآن، فَوَ الَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيدِهِ، لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتا من الإبل في عُقُلِها))[146].
   وفي شعب الإيمان للإمام البيهقي: ((فصلٌ في إدمان تلاوة القُرآن)، قال اللهُ عَزَّ وجلَّ مُثْنِيًا على من كان ذلك من دَأَبِهِ: ( يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ )[147] وَسَمَّى القُرآن ذِكرًا، وَتَوَعَّدَ من أَعْرَضَ عَنْهُ، وَمن تَعَلَّمَه ثُمَّ نَسِيَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا )[148]، وقال بعد ذلك بآيات: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذَكَرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[149] إِلَى قَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[150]. وحذَر النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم من حفظ آيات من القرآن ثمَّ نسيانها، داعياً إلى ضرورة استذكاره، فقال:  ((بِئْسَ مَا لِأَحَدِكُم أَن يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِهَا ))[151].
  عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي ؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)[152]. فذكر الله عز وجل أنه مع عبده حين يذكره، وهذه المعية هي معية خاصة وهي معية الحفظ والتثبيت والتسديد كقوله سبحانه لموسى وهارون: ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[153]، وأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان وتدبر الذاكر معانيه، وأعظمه ذكر الله عند الأمر والنهي وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. فينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقنًا بأن الله يقبله ويغفر له ; لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد، فإن ظن أن الله لا يقبله، أو أن التوبة لا تنفعه ، فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من كبائر الذنوب, ومن مات على ذلك وُكِل إلى ظنه، ولذا جاء في بعض طرق الحديث السابق حديث الباب (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ)[154] .
       ومما ينبغي أن يُعْلم في هذا الباب أن حسن الظن بالله يعنى حسن العمل، ولا يعني أبداً القعود والركون إلى الأماني والاغترار بعفو الله، ولذا فإن على العبد أن يتجنب محذورين في هذه القضية: المحذور الأول هو اليأس والقنوط من رحمة الله، والمحذور الثاني هو الأمن من مكر الله، فلا يركن إلى الرجاء وحده وحسن الظن بالله من غير إحسان العمل، فإن هذا من السفه ومن أمن مكر الله، وفي المقابل أيضاً لا يغلِّب جانب الخوف بحيث يصل به إلى إساءة الظن بربه فيقع في اليأس والقنوط من رحمة الله، وكلا الأمرين مذموم، بل الواجب عليه أن يحسن الظن مع إحسان العمل .
    يقول مولانا علي حرازم بن العربي براد المغربي الفاسي،  حول حديث الولي:
(... والمراد هنا بالنوافل ، قيام روحها في السلوك و روح الأعمال في السلوك، وهوعملها خالصة لله، لا لحظ عاجل أو آجل، بل يريد بها الخروج الى الله، محطا من جميع حظوظها وشهواتها ومتابعة هواها، فالعبد في هذه المرتبة، بمنزلة الشخص الملطخ بالنجاسات، وتلك النجاسات شديدة الألتصاق في ذاته، فهو يسعى الى زوال النجاسات عن ذاته، ليخرج الى الله طاهرا وطهرا . فلا شك ان صاحب هذه الحالة وهو التلطخ بالنجاسات لا يلتفت لعمل الثواب، بل يشتغل بتطهير نفسه.
     فلا شك ان الروح ولعت بالبعد عن الله تعالى، واتخذت من ولوعها موطنا ومسكنا، وصعب على العبد التخلص من هذه الورطة، فأخذ في تخليص نفسه مما تعلقت به،.... فنوافل العبد من هذه الحيثية هو الرجوع بالتقرب الى الله تعالى بالأعمال الصالحات لله محضا لا لطلب الثواب ، فهوساع لذلك في تطهير روحه مما استوطنته من الولوع بغير الله تعالى فيأخذها بالمكابدة والمجاهدة،  والقمع عن هواها ومزاولة المألوفات و الشهوات،  والمعين على ذلك المجاهدة هو الذكر على أصله، فأنه لا تخلص العبد من ورطاته الى الصفاء، الذي يدخل به الحضرة الألهية القدسية الا بفيض من الأنوار من حضرة القدس....)[155] اهـ.
    وبذلك يصل الإنسان إلي هذه الدرجة العليا بالتقرب إلي الله سبحانه وتعالي بهذه النوافل، فإذن كثرة هذه النوافل وإخلاصها لله جل وعلا تقرب العبد من الله جل وعلا و النوافل متعددة وكثيرة وهي لا حصر لها نوافل الصلاة، نوافل الصيام، نوافل القراءة، نوافل الإنفاق، نوافل نفع الآخرين بالبدن، نوافل نفع الآخرين بالمال، نفع الآخرين بالتفكير والرأي نفع الآخرين بالشفاعة، نفع الآخرين بالدلالة على الخير، نفع الآخرين بالدعاء لهم وهذه مجالات يعني كثيرة جدا هذه مجرد أمثلة ولذلك جاءت نصوص أخرى مؤيدة لهذا نذكر منها قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)[156] .
إذن نسأل الله سبحانه وتعالي أن يجعلنا من أوليائه وأن يعيننا على القرب منه.


[1]سورة يوسف الآية‏:‏ 108
[2] سورة محمد الآية:19
[3] رواه الترمذي(2646 )
[4] سورة الروم الاية:8
[5] سورة الذاريات الآية: 21
[6] سورة يونس الآيات:( 62 - 63).
[7] الحديث تفرد به البخارى ( رقم 6502 ) وأخرجه ابن حبان (2/58، رقم 347 ) والبيهقى (10/219 ، رقم 20769 ) ، وأبو نعيم في الحلية (1/4)
[8] أخرجه ابن أبى الدنيا فى الأولياء (ص 9 ، رقم 1) ، والحكيم (2/232) ، وأبو نعيم فى الحلية (8/318) ، وابن عساكر(7/95)
[9] فتح الباري شرح صحيح البخاري ص353 .
[10] جواهر المعانى و بلوغ المعاني في فيض سيدي ابي العباس التجاني/ ص 182 - حرازم ابن العربي.
[11]بهجة قلوب الأبرار: (ص 97)
[12]تفسير ابن كثير: (7/ 150)
[13]سورة يونس: 62 - 63)
[14]التحرير والتنوير: (11/ 218) بتصرف يسير
[15]مجموع الفتاوى: (11/ 62)
[16]مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية - رشيد رضا (4/ 62)
[17]مجموع الفتاوى: (11/ 66)
[18]سورة النساء الآية: 115
[19]أصل هذه الأربعة في: كشف المشكل (3/ 525)لابن الجوزي
[20]شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص: 127)نقلاً عن صاحب (الإفصاح) ابن هبيرة
[21] وأخرجه : أحمد 4/87 و5/54 – 55 و57 وفي " فضائل الصحابة " ، له ( 3 ) ، وعبد الله ابن أحمد في زوائده على " الفضائل " ( 2 ) و( 4 ) ، وابن حبان ( 7256 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/287 ، والبغوي في " شرح السنة " ( 3860 ) . 
[22]تفسير ابن كثير: (1/ 3429 )
[23]وقد يُقال: وكيف يتصور الحرب بين الخالق والمخلوق؟ والمحارب مناظر، وهذاالمخلوق في أسر قبضة الخالق؟ فالجواب: أن الإنسان إنما خوطب بما يعقل،ونهاية العداوة الحرب، ومحاربة الله عز وجل للإنسان أن يهلكه، وتقديرالكلام: فقد تعرّض لإهلاكي إياه". كشف المشكل: (3/ 526)بتصرف يسير
[24]تفسير ابن كثير: (7/ 150)
[25]نظم الدرر: (22/ 255)
[26]فتح الباري: (11/ 343)
[27] سورة يونس الآيات: (62 - 63)
[28]  التحرير والتنوير: (11/ 218) بتصرف يسير /محمد الطاهر بن عاشور.
[29] القاموس المحيط 4/404، – الفيروز ابادى
[30] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، للشيخ عبد الرحمن السعدي ، ص 120 .
[31] معجم مقاييس اللغة ، 6/141 ، وانظر : القاموس المحيط ، ص 1732 ، ومختار الصحاح ،ص 736 (الصاحب الأولى بمعنى المالك ، والصاحب الأخرى بمعنى الرفيق) .
[32] معجم مقاييس اللغة ، 6/141 ، وانظر : القاموس المحيط ، ص 1732 ، ومختار الصحاح ،ص 736
[33] معجم مقاييس اللغة 6/ 141 لابن فارس ط الكتب العلمية ايران. 
[34] غريب القرآن: 533 ط دار المعرفة- بيروت.
[35]  القاموس المحيط للفيروزآبادي مادة ( و ل ي ) ( 4/401). فتح القدير 2/457 دار المعرفة- بيروت.
[36] كتاب الفروق اللغوية للعسكرى - أبو الهلال العسكري ص92
[37]   شرح فصوص الحكم  ص4- محمد داوود قيصرى رومى
[38] علم الدّين التصوّف الإسلامي ص134- سليمان سليم
[39] معجماصطلاحات الصوفية ص33 – الكاشانى
[40] الرسالة القشيرية 2/524، 525 – الامام ابو القاسم القشيرى
[41] سورة يونس الآية62
[42] سورة فصلت الاية:31
[43] سورة يونس الآية:62
[44] كشف المحجوب ص256 - الهوجيرى ابو الحسن
[45] سورة الأعراف الآية:196
[46] الرسالة القشيرية- أبو القاسم القشيرى
[47] سورة يونس ( 62 - 63)
[48] كتاب كشف المحجوب ص 210- الهوجيرى ابو الحسن .
[49] كتاب حلية الاولياء وطبقات الاصفياء ص - الشيخ أبو نعيم: .
[50] صحيح مسلم لصفحة أو الرقم: 2676
[51] سورةالأحزاب :  35
[52] سورة إبراهيم :42-43
[53] التذكرة(ص 119) - أبو الفرج أبن الجوزي
[54] سورةالأنعام : 15
[55] سورةالأنفال : 24
[56] سورة البقرة : 165
[57] كتاب " النفحة العلية فيالأوراد الشاذلية- عبد السلام بن مشيش ص 259 – 260
[58] مسند الترمذى – الترمذي - سنن ابن ماجه - (11 / 245)
[59] تاريخ عجائب الاثار في التراجم والاخبار – عبد الرحمن الجبرتي ج1 – ص345.
رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن
[61] رواه الترمذي بهذا اللفظ برقم 3596 وقال حسن غريب
[62] شعب الإيمانللبيهقي رقم الحديث: 6421 – البيهقي.
[63] قال الإمام الذهبي رحمه الله في السير 13 ص:439الإمام الحافظ العارف الزاهد أبو عبدالله محمد بن علي ابن الحسن بن بشر الحكيم الترمذي
[64] كتابخاتم الأولياء و خاتم الأنبياء، ص331- الحكيم الترمزى
[65] كتاب"خاتم الأولياء و خاتم الأنبياء " –ص323- الحكيم الترمزى
[66] كتاب"خاتم الأولياء و خاتم الأنبياء " – الحكيم الترمزى ص336.
[67]سورة البقرة الآية:165.
[68]  سورة المائدة الآية:54 .
[69] سورة مريم الآية:96.
[70]  سورة هود الآية:90
[71] سورة البروج الآية:14 .
[72] سورة التوبة الآية: 24.
[73]  سورة آل عمران الآية:31.
[74] صحيح البخاري (7/218)
[75] متفقٌ عليه
[76] متفقٌعليه
[77] صحيح التغريب بسندٍ صحيح
[78] صحيح على شرط مسلم
[79] رواه الطبراني وحسنه الأرناؤط
[80]  رواه أحمد و الحاكم و صححه الذهبي
[81] أخرجه أحمد في مسنده (2/514) والبخاري في صحيحه ومسلم والترمذى
[82] لطائف المعارف -ص 339- لابن رجب الحنبلى.
[83] أخرجه : الدينوري في "المجالسة" ( 132 ) ، وعبد الحق الأشبيلي في " التهجد " ( 1046 ) و( 1047 ) .
[84] ذكره : الزركشي في " التذكرة في الأحاديث المشتهرة " : 135 ، والسخاوي في " المقاصد الحسنة " ( 990 ) ، والملا علي القاري في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " ( 657 ) و( 810 ) و( 1021 ) ، والعجلوني في " كشف الخفاء " ( 2256 ) .وانظر : أسنى المطالب ( 1290 ) ، وقد أجاد ابن رجب - رحمه الله – حينما نسبه إلى الإسرائيليات ؛ فهذا مما ورد عن أهل الكتاب كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " 18/122 ، والسيوطي في " الدرر المنتثرة " : 362 ، ويخطئ بعض الناس فينسب هذا حديثاً نبوياً ، وهو لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم . 
[85] السِّيرة النَّبوية لابن هشام 2/106 ( وهي تهذيب لسيرة ابن إسحاق ) ، ومن طريقه البيهقي في " دلائل النبوة " 2/525 وسنده مرسل ، وانظر : السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث 1/504
[86] سبق تخريجه .
[87] ذكره : ابن الجوزي في " مناقب عمر " : 225 عن الشعبي ، عن علي ، به مطولاً .
[88] أخرجه : الحاكم 4/320 عن عبد الله بن مسعود ، به .وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/48 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 1585 ) و( 10586 ) .
[89] أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 7/356 – 357 .
[90] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم ص387- 390 - ابن رجب الحنبلى
[91] أخرجه : الترمذي ( 3490 ) ، والحاكم 2/433 من حديث أبي الدرداء مرفوعاً ، به ، وقال الترمذي : (( حسن غريب )) ، وهو من تساهله ؛ فالحديث ضعيف لجهالة أحد رواته .
وأخرجه : أحمد في " الزهد " ( 374 ) بنحوه عن أبي عبد الله الجدلي موقوفاً ، به .
[92] أخرجه : أحمد 5/243 ، والترمذي ( 3235 ) وفي " العلل " ، له ( 397 ) ، وابن خزيمة في "التوحيد" : 218 – 219 ، والطبراني في "الكبير" 20/( 216 ) عن معاذ بن جبل .
وهو جزء من حديث طويل ، قال الترمذي : (( هذا حديث حسن صحيح . سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث : فقال : هذا حديث حسن صحيح )) .  
[93] أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 430 ) ، والترمذي ( 3491 ) ، وابن الأثير في " أسد الغابة " 3/416 من حديث عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري ، به مرفوعاً .
[94] أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 8/282 من طريق أبي بكر بن أبي مريم ، عن الهيثم بن مالك الطائي ، مرسلاً  .
[95] أخرجه : الحاكم 2/441 عن خَبّاب بن الأرت ، به .
[96] في جامعه ( 2911 ). وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7657 ) عن أبي أُمامة ، به . مرفوعاً .وأخرجه : الترمذي ( 2912 ) من طريق زيد بن أرطأة مرسلاً .
وأخرجه : الحاكم 1/555 عن أبي ذَر الغفاري ، به .
[97] أخرجه : عبد الله بن أحمد في " زوائد الزهد " ( 680 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/300 بإسناد منقطع .
[98] أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 8657 ) ، وانظر : مجمع الزوائد 7/165 .
[99] برقم ( 3059 ) كما في " كشف الأستار " ، وانظر : مجمع الوزائد 10/74 .
[100] أخرجه : أحمد 2/251 ، والبخاري 9/177 ( 7505 ) ، ومسلم 8/62 ( 2675 ) ( 2 ) من حديث أبي هريرة ، به .
[101] أخرجه: أحمد 2/540 ، وابن ماجه ( 3792 ) ، وابن حبان ( 815 ) ، والبغوي ( 1242 ) من حديث أبي هريرة ، به ، وهو حديث صحيح .
[102] سورة البقرة الآية : 152 .
[103] أخرجه : البخاري 4/69 ( 2992 ) ، ومسلم 8/73 ( 2704 ) ( 44 ) من حديث أبي موسى الأشعري ، به .
[104] أخرجه : مسلم 8/74 ( 2704 ) ( 46 ) ، وأبو داود ( 1526 ) ، والترمذي ( 3374 ) من حديث أبي موسى الأشعري ، به .
[105] برقم ( 3527 ) ، وفي إسناده انقطاع إلا أنَّ للحديث شواهد .
[106]سورة يونس الآية : 62 .
[107] أخرجه : أحمد 5/343 ، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب .
[108] مسند الإمام أحمد 3/430 ، وهو ضعيف لضعف رشدين بن سعد ولانقطاعه ، وانظر : مجمع الزوائد 1/89
[109] أخرجه : أبو عبد الرحمان السلمي في " طبقات الصوفية " : 351 .
[110] الزهد "  للإمام أحمد برقم ( 389 ) .
[111] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم ص 381 – 386 - ابن رجب الحنبلى
[112] سورة الاسراء الآية:1
[113] سورة النساء: من الآية:100.
[114] سورة الشورى: من الآية:20.
[115] سورة الاسراء الآية:19
[116] سورة الاسراء الآية:18.
[117] سورة هود الآية:15-16.
[118] سورة آل عمران الآية: من الآية145
[119] متفق على صحته
[120] رواه البخاري (6064)
[121] سورة القصص:50.
[122] رواه الترمذي (1999) وأبو داود (4091) وابن ماجه (59)
[123] سورة لأعراف:146. 
[124] مسلم، الترمذي، أبو داود، ابن ماجه، أحمد
[125] صحيح البخارى
[126] سورة التوبة الآية:122
[127] سورة آل عمران الآية:59
[128] أبو داود
[129] سورة ابراهيم الآية:7
[130] سورة النحل الآية:53
[131] سورة العنكبوت الآية:69 .

[132] سورة الأنعام الآية:90
[133] صحيح البخارى
[134] الكتاب :على القرنى محاضرات وخطب  [الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 46 درسا ص 143-144-145]. إشارات على الطريق  للشيخ علي عبد الخالق القرني
[135] سورة البقرة الآية: (286).
[136] سورةالطلاق الآية (7)
[137]سورة المزمل الآية ( 7 – 8 )  
[138] سورة الإنسان الآية ( 25 – 26 )
[139] سورة ق الآية ( 139 – 140) .
[140] سورة الذاريات الآية ( 17 – 18) .
[141] سورة النساء ( 115 )
[142] حاشية الصاوى على الشرح الصغير(2/56).  - العلامة الصاوى
[143] متفق عليه
[144] أخرجه أحمد 165/6. ومسلم 2/189
[145] أخرجهأحمد 6/176 والبخاري 8/122 .
[146] أخرجه البخاري رقم الحديث: 4672، ومسلم رقم الحديث: 1323
[147] سورة آل عمران الآية: 113
[148] سورة طه الآية: 100
[149] سورة طه الآية: 124
[150] سورة طه الآية: 126
[151] شعب الإيمان للإمام البيهقي
[152] رواه البخاري ومسلم
[153] سورة طـه الآية: 46
[154] [154] سنن الدارمي رقم الحديث: 2649
[155] كتابجواهر المعاني و فيض الأماني ص 182- علي حرازم بن العربي براد الفاسي
[156] سورة البقرة الآية:152

ليست هناك تعليقات: