بحث هذه المدونة الإلكترونية

كتاب مفهوم الولاية والأولياءالفصل(4)،(5)الخاتمة



الفصل الرابع
    عالم الغيبيات
    من التهم التي يتهمها البعض من المتهجمين على التصوف أن الأولياء يعلمون الغيب، فيشركون بالله علمه الغيب، وذلك مخالف لقول الله تعالى: (عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ...[1]، ويخالفون قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[2].  إن هاتين الآيتين وغيرها تدل أن الله عز وجل له غيب مطلق لا يعلمه إلا هو وحده لا يشاركه فيه أحد، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة من الصوفية.
  أكثر الناس تؤمن بوجود عالم غيبى يختلف في خصائصه ومميزاته عن عالمنا المادى الذي نعيش فيه ونشعر به بالفعل، ومنذ أن خلق الله تعالى الإنسان خلقه بجنبة روحية يتطلع من خلالها إلى العالمين الغيبى والروحي، وقد أشار تعالى إلى البعد الروحى الذي يتمتع به الإنسان حينما قال: (وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ*ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ)[3].
   ومن خلال هذا الجانب الروحى كان الإنسان على الدوام يسعى للتعرف على حقيقة العالم الغيبى الذي يشعر الإنسان بأن روحه ونفسه تنتميان إليه وتشتاقان للارتباط به، وقد كانت مهمة الأديان السماوية هي ربط الإنسان بهذا العالم وتوثيق علاقته به من خلال الافصاح عن بعض حقائق هذا العالم وموجوداته، وربما وفق البعض من الناس كالفلاسفة والحكماء الإلهيين من خلال قدراتهم العقلية المتميزة من الوصول إلى بعض الأمور الغيبية والتعرف على حقيقتها، ولكن مع ذلك ظلت حاجة الإنسان شديدة إلى الأديان والرسالات السماوية من أجل وعي وإدراك حقيقة العالم الغيبى ولو بنحو الإجمال، لأن الوعي التفصيلى بكل حقائق عالم الغيب ربما لا يتيسر للإنسان مادام في هذه الدنيا.
ولأنّ أكثر الناس يعجز عن إدارك حقيقة العالم الغيبي فإن الشرائع قد أمرتهم أن يؤمنوا إيماناً إجمالياً بالغيب، وأن لا يسعوا لتكلف التعرف والإحاطة بما لا يمكن لعقولهم الإحاطة به وإدراك حقيقته.
    ومما ينبغي الالتفات إليه بصورة أساسية أن حقيقة الحقائق وهو الله سبحانه وتعالى الذي هو المقصد الأصلي للإنسان في سيره الروحي مهما اقترب الإنسان منه وارتبط به فإنه يظل غيباً بالنسبة إليه، وليس بإمكان أي إنسان أن يحيط بحقيقة الذات المقدسة، وهذا المطلب مقرر بصورة واضحة وجلية في نصوص الشريعة.
     نقدم بعض الحقائق الأساسية عن عالم الغيب بالمقدار الذي يتناسب والمستوى الفكري العام، فإن ما سنقدمه لن يتجاوز أن يكون صورة إجمالية عن العالم الغيبي، نريد من خلالها رفع حالة الغموض والارتباط التي يعيشها المسلم في تصوراته عن عالم الغيب وما وراء الطبيعة.
     أكثر الناس تعتقد أن العالم الغيبي هو وجود واحد يقابل العالم المادي، ولكن الحقيقة التي يهدينا إليها الشرع والدين وتوصل إليها أهل التصوف من خلال اتباعهم للشرع ومجاهدتهم لأنفسهم هي غير ذلك، وذلك لأن العالم الغيبي هو عالم ذو مراتب تخفى جميعها علينا، وقد اصطلح علماء الصوفية ممن عنوا بالجانب الروحي في الإسلام واستطاعوأ إدراك الكثير من حقائق عالم الغيب على التسميات التالية التي تبين جميع مراتب الوجود وتنزلاته، فقالوا: "فأول العوالم في الوجود الخارجي هو عالم العقول والنفوس المجردة المسماة بعالم الجبروت، ثم عالم المثال المطلق الذي لكل من الموجودات المجردة وغير المجردة فيه صور مثالية مدركة بالحواس الباطنة، ويسمى بعالم الملكوت، ثم عالم الملك الذي هو العرش والكرسي والسماوات والعناصر، وما يتركب منها.؟ وهذه العوالم الثالث صور ما في العلم الإلهي من الأعيان الثابتة المسماة بالماهيات الممكنة، والحقائق وأمثالها، وهي عالم الغيب المطلق لاشتماله على غيوب كل ما في العالم.
    أن معرفة الحقائق الغيبية على وجهها الصحيح والتام قد لا تتيسر للإنسان بمجرد البحث العلمي والتتبع الفكري، بل ربما يفتقر إدراكها إلى مجاهدات نفسية عملية، وذلك لأن الإسلام قد دلنا على أن العلم والعمل يرتبط كل منهما بالآخرة ويؤثر فيه فالعلم يهدي إلى العمل، والعمل بالعلم يفتح للإنسان أبواباً أخر من العلم، وهذا ما أكده القرآن حينما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً)[4] وحينما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[5] ، وحينما قال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )[6].
      وهناك تصوير آخر حاول العلماء الطبيعيون من خلاله تقديم بعض الحقائق عن العالم الغيبي، وأكثر هذه الحقائق ينسجم ولا يتعارض مع الحقائق التي استطاع علماء الإسلام التوصل إليها واكتشافها في هذا المجال، ومنذ بدايات القرن العشرين الميلادي توجهت أنظار الكثير من العلماء في أوربا وأمريكا والاتحاد السوفيتي السابق إلى البحث في القضايا الروحية والغيبية، وتوصلوا من خلال بحوثهم التجريبية والمختبرية إلى نتائج مهمة في المجالين الروحي والغيبي يمكننا اعتبارها أوليات البحوث الروحية والغيبية التي أهتم بها أشد الاهتمام في الوسط الإسلامى .
      ويقوم التصوير الذى يقدمه العلماء المحدثون عن العوالم الغيبية على الاعتقاد بانقسام العالم إلى عالمين: عالم فيزيقى وهو العالم المادي الذي نحسه ونشعر به وندرك موجوداته، وعالم أثيري هو بمثابة العالم الغيبي الذي لا نحسه ولا نشعر به ولا ندرك موجوداته إلا من خلال تأثيراته التي تنعكس في بعض الأحيان على عالمنا المادي الفيزيقي.
     وفي مقام بيان وشرح بعض حقائق الإنسان الغيبية يقول جيمس آرثر فند لاي ـ وهو ممن توصلوا إلى نتائج مهمة وجيدة في البحث الروحي ـ في كتابه "على حافة العالم الأثيري": "إن الإنسان مكون من جسم ونفس وروح، فالجسم ما نراه، والنفس هي العقل، والروح هي الجسم الأثيري الذي يطابق في الشكل الجسم الفيزيقي وهي التي تجعل هذا الجسم الفيزيقي يتماسك، وما الموت إلا انفصال الجسم الأثيري عن الجسم المادي، ويحمل هذا الجسم الأثيري معه العقل او النفس، وعندئذ ننظر إلى الكون من وجهة النظر الأثيرية لا وجهة النظر المادية، ويصبح العالم المادي أمراً تافهاً لا يعتد به. أما الأثيري ـ وهو ما نسميه نحن الفضاء ـ فليس إلا مادة حقيقية في صيغة أكثر تخلخلاً، وهو العالم الحقيقي الذي يعتد به، وهو ما عرفنا عن تكوينه كون مستقر ثابت، في حين أن الكون المادي دائب التغير سائر إلى الانحلال، ولا يوجد في الكون الأثيري أي أثر للانحلال، بل إن كل شيء فيه ثابت منتظم.
       أما عقل الإنسان فشيء فوق الأثيري، ولا يستطيع أي إنسان وهو في جسمه الفيزيقي أن يشرح العقل ويفسره، ولكنه لابد أن يكون شيئاً فوق الأثيري لأنه يعمل بعد الموت، فهو الذي يرشد الجسم الأثيري ويضبطه"[7].
    وعن الجسم الأثيري يقول فندلاي: "والجسم الأثيرى هو الذي يحفظ كيان الجسم المادي فوق الأرض، ومن الجائز أن يكون لكل شيء في الوجود جسم أثيرى، ولن يتغير العقل بالموت ولكنه يؤدى وظائفه في أوساط أخرى مغايرة"[8].
     ورغم ما توصل إليه فندلاي من حقائق عن عالم الغيب والروح فإنه كان يقول عن الحياة: "والحياة شيء آخر غير المادة الفيزيقية، وهي من خصائص العالم الأثيرى، أما لماذا أو متى امتزجت بالمادة الفيزيقية فأمر لا نعرفه"[9].
     وهذه هي بعض ملامح العالم الغيبي و حقائقه لا تنفذ ولا تتناهى ولا يمكن الاحاطة بها واستعراضها في كتاب بل ولا في كتب كثيرة، ولقد صدق تبارك وتعالى حينما قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)[10].
    وقد يطلع الله عز وجل بعض لبعض عباده جزءاً من الغيب، ويسمى بالغيب المقيد (أي الجزئي)، قال ابن حجر العسقلاني: ((قال الشيخ أبو الفضل بن عطاء في هذا الحديث عظم قدر الولي لكونه خرج عن تدبيره إلى تدبير ربه وعن انتصاره لنفسه إلى انتصار الله له وعن حوله وقوته بصدق توكله قال ويؤخذ منه أن لا يحكم لانسان آذى وليا ثم لم يعاجل بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده بأنه سلم من انتقام الله فقد تكون مصيبته في غير ذلك ما هو أشدعليه كالمصيبة في الدين مثلا قال ويدخل في قوله افترضت عليه الفرائض الظاهرة فعلا كالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات وتركا كالزنا والقتل وغيرهما من المحرمات والباطنة كالعلم بالله والحب له والتوكل عليه والخوف منه وغير ذلك وهي تنقسم أيضا إلى أفعال وتروك قالوا فيه دلالة على جواز اطلاع الولي على المغيبات باطلاع الله تعالى له ولا يمنع من ذلك ظاهر قوله تعالى: (عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً *إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍفإنه لا يمنع دخول بعض اتباعه معه بالتبعية لصدق قولنا ما دخل على الملك اليوم إِلا الوزير ومن المعلوم أنه دخل معه بعض خدمه قلت الوصف المستثنى للرسول هنا ان كان فيما يتعلق بخصوص كونه رسولا فلا مشاركة لاحد من اتباعه فيه إِلا منه وإِلا فيحتمل ما قال والعلم عند الله تعالى.(([11]
  ما هو عالَم الغيب ؟
 يقول فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي: (( أكبر صفات المتَّقين أنهم يؤمنون بالغيب، فما هو الغيب ؟ هناك عالَم الشهود، وهناك عالَم الغيب؛ عالَم الشهود ما تشاهده، ما تسمع به، ما تشُمُّه، ما تُحِسُّ به، تسمعه، أو تراه، أو تشمُّه، أو تتذوَّقه، أو تحس به، المعلومات التي تأتينا عن الحواس الخمس، عالم الشهود؛ هذا الضوء متألق، وهذه المروحة تدور، وهذا الصوت يُكَبَّر نعرفه بآذاننا .
    لذلك قالوا: " ليس مع العين أين "، ليس مع العين أين الدليل ؟ لا نحتاج مع العين إلى دليل ؛ لا يختلف البشر جميعاً على المحسوسات، لذلك العلوم المادية متَّفق عليها في كلِّ قارات الأرض؛ علم الفيزياء، والكيمياء، والضـوء، والميكانيك، والحرارة، وعلم المستحثات.
    العلوم المادية، ليس بين علماء الأرض خلافٌ حولها إطلاقاً، لأن الحس يقيني، هذا هو عالَم الشهود، الشيء الذي تدركه بسمعك، تسمع صوته، أو تراه بعينك، أو تلمسه بيدك، أو تشُمُّه بأنفك، أو تتذوَّقُه بلسانك، هذا عالم الشهود .
     نحن يجب أن نعرف أن هناك عالم الشهود، الواقع المحسوس المادي، أما الذي غاب عنا هو من عالم الغيب، وأهم شيء في عالم الغيب الله جلَّ جلاله، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار؛ ما دام الكون أحد آثار الله عزَّ وجل، ما دام الكون تجسيداً لأسمائه الحسنى، ما دام الكون مظهراً لأسمائه الحسنى، فالكون من آثار الله عزَّ وجل، ويوجد عقل، والعقل عن طريق نظام السببية والغائية وعدم التناقض، يتعرَّف إلى الله عزَّ وجل .
     لكن أن تقول: هناك جنة ونار هذه لا ترى بالاستدلال، إنَّ هناك ملائكة وجناً هذه لا تُرى بالاستدلال، إنَّ هناك صراطاً، وحوضاً، ولوحاً محفوظاً، وإن أصل البشر آدم وحوَّاء، هذا كلُّه من عالم الغيب الذي ليس له آثار فينفعنا عقلنا بها ، هذا من عالم الغيب الذي ليس له آثار، أداته الوحيدة الإخبار، الإخبار لا بدَّ من أن يكون صادقاً حتى يكون صحيحاً، فإذا أخبر الله عن شيء فهو حقٌ كأنك تراه لذلك:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ[12]، من منكم رأى ذلك ؟ مع أن الله يُخاطبنا ، معنى هذه الآية أن الله إذا أخبرك عن شيء فينبغي أن تؤمن به كأنَّك تراه ..
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ  [13]
     آمنا بالله هناك غيبٌ استأثر الله به لا يعلمه أحدٌ من خلقه .. وغيبٌ استأثر الله به ، وسمح لبعض الأنبياء أن يعرفوه ، فكل أحاديث آخر الزمان ، ومجيء سيدنا عيسى ، هذه كلها من الغيب الذي سمح الله لنبيِّه أن يَعلَمه .
(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)[14].
 وأما الغيب الذي أخبرنا الله به ؛ الإيمان بالملائكة ، الإيمان بالجن، الإيمان بالجنة، الإيمان بالنار، الإيمان بالصراط، الإيمان بالحوض، الإيمان باللوح المحفوظ، هذه كلُّها من الغيب الذي غاب عنا، وليس له آثار، لكن الله أخبرنا به .
على الإنسان أن يعرف هوية أية قضية تُعرض عليه :
    الآن الشيء الدقيق جداً يجب أن تعرف هويّة أية قضيةٍ تُعرض عليك ، هذه قضية حِسِّية مرجعها العلماء، يأتي شخص فيقول: أعمَلُ عملية ؟ فيقال له : ماذا قال لك الطبيب ؟ هذه قضية علمية تحتاج إلى طبيبٍ حاذقٍ ورعٍ مسلم، إخبار الطبيب الحاذق الورع المسلم؛ هو الحَسم، هو الفيصل؛ القضية حسية، قضية تُقاس بمقاييس، يوجد ميزان حرارة، يوجد ميزان ضغط، يوجد إيكو للقلب، يوجد مِرنان، يوجد أدوات، يوجد تحليلات، الأمور الحسيِّة لها مقاييس حسية، قال تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )[15].
    الأمور الغيبية إن كان لها آثار فأداتها الوحيدة العقل، و نقول عنها  غيبٌ استدلالي، أما الأمور الغيبية التي ليس لها آثار، وسمح الله أن نعرفها أداتها الأخبار، فصار عندنا يقينٌ حسي، يقينٌ عقلي، وخبر صادق عنها ، وهناك غيب استأثر الله به، فأية قضيةٍ في الدين، يجب أن تعرف هويَّتها، من النوع المحسوس أم المعقول أم الإخباري .
   هذا المقطع من سورة البقرة يُمَثِّل المؤمنين، لأنك كائن أودعت فيك الشهوات سبب حركتك ، والشهوات تحتاج إلى منهج، إلى هدى من الله، فهناك خطر كبير أن تندفع بدافعٍ من شهواتك من دون منهج ، هذا الخطر كيف يُتَّقى ؟
( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) .
من أراد الوِقاية من أخطار الدنيا والآخرة، من أراد الوقاية من مصائب الدنيا، ومن نارِ جهنم، فعليه باتباع هذا المنهج ..( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) . من عند الله ..( لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ).
   فإذا كان هذا الكتاب يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[16]. والرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)[17] انتهى
      إن الاهتمام بالعنصر الغيبي ـ ونعني به ما لا يدرك بالحواس الخمس ـ سواء كان هو الله جل جلاله، أم الجن، أم الملائكة والأرواح، أم الجنة والنار، أم غير ذلك من الموجودات الغيبية، ولاسيما إذا أضفنا إلى ما تقدم الكثير من الظواهر الغيبية التي كان يشاهدها الإنسان أو يستشعر تأثيراتها من دون أن يستطيع العثور على أسبابها وعللها الحقيقة، كالسحر والمعجزات والحسد والعين والتخاطر من بعد وخوارق العادات، وغيرها من الظواهر التي قد ينكرها بعض الناس ولا يؤمنون بها، ولكن كثيراً من الناس يؤمنون بها وبوقوعها، أو على أقل تقدير لا يستبعد إمكانية وقوعها وتحققها.
      فهذه الظواهر وتلك الغيبيات كانت دائماً تشغل بال الإنسان وتسترعي انتباهه، وتدفعه لمحاولة التعرف عليها من قرب والتوصل إلى مجاهيلها وأسرارها بطريق أو آخر، وهذا كان يدفع عدداً غير يسير من الناس للدخول في ممارسات عملية قد لا تكون مستقيمة ومتزنة تلبية للرغبة الجامحة التي تثيرها عند الإنسان فكرة الاتصال بالمجهول والارتباط بالعالم الغيبي)..
     وفي هذا الموضوع  حاول السيد كامل الهاشمى أن يقدم بعض الحقائق والتصورات المهمة عن عالم الغيب، مستهدفا من ذلك رفع بعض الغموض الذي يلف القضايا الغيبية ويحولها إلى قضايا يتعامل معها الكثير من الناس من موقع التخبط والاهتزاز الفكريين والسلوكيين، يقول السيد كامل الهاشمى عن ضرورة الإيمان بالغيب: (من السمات البارزة التي يذكرها القرآن الكريم للمؤمنين هي إيمانهم الراسخ بعالم الغيب فيقول تعالى: (الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ..)[18] ، ويقول عز شأنه: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) ، ويقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[19].
    هذه الحقيقة تنبهنا على أن الإنسان مادام في هذه الدنيا فإنه تبقى كثير من الأمور بالنسبة إليه في نطاق الغيب ومجاله، ومهما أوتي الإنسان من سعة علم ومعرفة فإن معرفته في أكثر الأحيان لا تتعدى حدود المعرفة الظاهرية والسطحية للأشياء، وهذا يستلزم من الإنسان أن لا يعجب بما وصل إليه من علوم ومعارف، وأن يعي كل الوعي أن فوق كل ذي علم عليم، وهذه الأمور هي التي يذكرنا بها القرآن حينما يقول: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[20]
     وحينما يقول: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)[21] ، وحينما يقول (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[22] ، وحينما يقول: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)[23] ، وحينما كرر أكثر من مرة قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[24]
      وهذه الآيات وغيرها تدفعنا لتفويض أمر الغيب والعلم به بكل تفاصيله إلى الله لأنه (... لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ)[25] ، وقد أخبرنا جل شأنه بأنه لا يطلع أحدا على الغيب إلا من شاء من رسول أو نبي فقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء)[26].
     ولذا فإن عباد الله الصالحين يرجعون العلم بالغيب إلى الله، وهذا ما يحكيه القرآن حينما يقول: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)[27]
      فالغيب المطلق الذاتي هو لله تعالى سبحانه .. وهذا ما تدل عليه الآيات الصريحة في كتاب الله ومعني )قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)[28] فالإحاطة بالعلم كلها لله وهو سبحانه الذي يأذن لبعض من خلقه بالإحاطة ببعضٍ من هذا العلم لا يعلم الغيوب علماً تاماً مستقلا إلا هو - سبحانه - فأما ما أطلع عليه بعض أصفيائه من الغيوب فهو إخبار منه لهم فهو المنفرد بعلم المغيبات على الإطلاق كليها وجزئيها دون غيره)[29]. إه
  ثم انتقل السيد كامل الهاشمى ليحدثنا عن حقيقة الاتصال بالعالم الغيبي وصوره: (أن الكثير من الناس يحملون تصورات مشوهة ومغلوطة عن كيفية الاتصال بالعالم الغيبي وقبل ذلك عن حقيقة الارتباط بهذا العالم وإمكانية ذلك وعدمه.
   جاء فى رسالة التوحيد: (( أن كل إنسان موحد يؤمن بالله ورسالاته لابد وأن يعتقد بإمكانية ارتباط الإنسان بالغيب ولو في حالات مخصوصة وعند أفراد مخصوصة من الناس، وعلى هذا الأساس يؤمن هذا الإنسان بدعوات الأنبياء والرسل (عليهم السلام) لأنها لا تتأتى للأنبياء والرسل (عليهم السلام) إلا من خلال ارتباطهم بالله سبحانه وتعالى ونزول الوحي عليهم بواسطة الملائكة أو القذف في القلب أو بأى واسطة أخرى، ومن خلال هؤلاء الرسل والأنبياء (عليهم السلام) يوصل الله عز شأنه أوامره ونواهيه إلى عامة الناس، وليس من الممكن ولا بمقدور أي إنسان ان يكلمه الله بصورة مباشرة ويوحى إليه ما يشاء، لأن الارتباط بالله وتبليغ أحكامه إلى الناس مهمة ثقيلة لا يتوفر على شرائطها إلا القليل من الناس، ولذلك فإن الله سبحانه يقول: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ )[30]
       والاتصال بالله سبحانه وتعالى وبعالم الغيب عن طريق النبوة والرسالة هو الطريق الوحيد الذي يطمئن الإنسان من خلاله إلى صحة وواقعية ما يصل إليه من عالم الغيب وما وراء المادة، وذلك لأن الحفظ والصيانة من الخطأ والاشتباه أمران مضمونان في هذا النوع من الارتباط بالعالم الغيبى، وهذا ما نلمحه من خلال تأكيد القرآن الكريم على مقتضيات العصمة والحفظ في مبدء ومنتهى وواسطة هذا الارتباط الغيبى بين الله تعالى وأنبيائه ورسله (عليهم السلام). فالوحي ينزل من الله جل جلاله والله لا يقول إلا الحق ولا يهدى إلا إلى الصراط المستقيم (قل الله يهدي للحق)[31] ، (ذلك بأن الله هو الحق)[32] ، (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)[33].
     وواسطة هذا الاتصال هو الملك الذي ينزل على الرسل والأنبياء (عليهم السلام) بالوحي من السماء، وقد وصف الله تعالى ملائكته بأنهم (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[34] ووصف الملك الذي ينزل على خاتم الأنبياء والرسل (صلى الله عليه وسلم) بالوحي والقرآن بالأمين فقال:
(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ )[35].
      ومنتهى هذا الاتصال الغيبي هو النبي أو الرسول الذي يتلقى الوحي من الله بواسطة الملائكة، ومن يتلقى الوحي من الله ويبعثه الله بالنبوة والرسالة لا يمكن أن يكذب أو أن يحرف الكلام، وهو ما يثيره القرآن الكريم في العديد من آياته كقوله 
تعالى: ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى  *  وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى *  إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ  يُوحَى)[36] ، وقوله سبحانه: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ *وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ *تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ لْعَالَمِينَ *وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ *لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ([37] ، وكقوله تعالى على لسان نبيه موسى (عليه السلام): (إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ *حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ)[38].
      وعلى هذا الأساس فإن جميع تنزلات الوحي على الأنبياء والرسل (عليهم السلام) تكون بالحق، قال تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)[39] وقال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)[40] ، وقال عز شأنه في شأن كل الأنبياء الذين أوحى إليهم: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ)[41].
     ومن المهم أن نشير في ختام حديثنا إلى أن الوحي في المصطلح القرآني لا يختص بالأنبياء والرسل (عليهم السلام)، بل هو على أنواع وأشكال ومراتب وما يختص بالأنبياء والرسل (عليهم السلام) هو المرتبة العالية من الوحي التي تستلزم حمل رسالة إلهية أو دعوة ربانية إلى الناس، وعدم اختصاص الوحي بالأنبياء والرسل (عليهم السلام) دلت عليه الكثير من آيات القرآن الكريم كقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)[42] ، وقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)[43].
     وأما الطرق الأخرى للاتصال بعالم الغيب والارتباط بما وراء الطبيعة فإن الحديث عنها يطول وسنحاول تقديم بعض الحقائق والتصورات عنها ضمن الخلاصة التالية:
    يعتقد جل الفلاسفة والصوفية من الإسلاميين وغيرهم بوجود عوالم غيبية يمكن للإنسان الارتقاء إليها والتوصل إلى اكتشاف حقائقها بطريق أو آخر، وأهم تلك العوالم هو عالم المثال، وهو عالم بين عالم الأجسام وعالم الأرواح المجردة ، وهذا العالم توجد فيه حقائق الأشياء والموجودات وصورها المثالية ويمكن للإنسان من خلال تجريد نفسه أن يتصل بهذا العالم وأن يتعرف على ما فيه من حقائق وصور.
    وما يلزم التنبيه عليه إن الإنسان حينما يتجرد وتسمو نفسه إلى الاتصال بالعالم العلوي فإن أول ما يتعرف عليه من عوالم الغيب هو هذا العالم المثالي، وفي ذلك يقول القيصري أحد أبرز علماء العرفان: "وأول ما ينفتح للإنسان عند غيبته من هذا العالم الجسماني هذا العالم المثالي، وفيه يشاهد أحوال العباد بحسن صفاء الباطن، وقوة الاستعداد. فإن من يشاهد أمراً يقع بعد سنة أقوى استعداداً ممن يشاهد ما يقع دون تلك المدة. وكل ما يشاهد في الخيال المقيد قد لا يكون محتاجاً إلى التعبير وهو القليل والأكثر ما يحتاج إليه، وذلك لأن المعاني إذا ظهرت بالصور إنما يظهر فيها بحكم المناسبة بينها وبين ما يظهر فيها من الصور، فلابد أن يعبر الرائي أو من يعبر له من تلك الصور إلى المعنى الظاهر فيها. وقد يكون أضغاث أحلام لا يلتفت إليه لسوء مزاج الدماغ، لذلك يصيب بعض المنامات ويخطأ بعضها))[44].
       ولا ينبغي الاعتقاد بأن اطلاع الإنسان على ما في عالم المثال من صور وحقائق ينحصر في طريقة واحدة وأسلوب معين، بل من المقرر بين علماء العرفان ـ وهم أكثر من اهتم وعنى بمثل هذه المسائل ـ ان تحصيل القدرة على الاطلاع على عالم الغيب يمكن من خلال عدة طرق، والبعض من هذه الطرق ربما لا يكون مكتسباً أصلاً، وإنما تتدخل بعض العوامل الوراثية والبيئية في وجوده وحصوله عند البعض من الناس، يقول حيدر الآملي: ( وعلى هذا الأساس فقد قسم الذوق و العرفان الكشف والذي يعني اطلاع الإنسان على ما وراء هذا العالم المادي من حقائق ومعلومات وصور إلى قسمين:
الأول: الكشف الحقيقي المعنوي، وهو يعني ظهور المعاني العينية والحقائق الغيبية، وهو يحصل بسبب تزكية النفس ومجاهدتها بالمجاهدات الشرعية.
الثاني: الكشف الصوري غير الحقيقي، وهو يعني اطلاع الإنسان على المغيبات المختصة بالخلق، بالإضافة إلى اطلاعه على ما في عالم المثال عن طريق الحواس الخمس.
وهذا النوع من الكشف يحصل بعوامل ثلاثة:
الأول: المجاهدات الشرعية والتي تعني تهذيب الإنسان نفسه وتطهيرها من أوساخ التعلق بالمادة وانقطاعه إلى الحق جل وعلا.
الثاني: المجاهدات غير الشرعية كما يفعله بعض أصحاب الرياضات النفسية والبدنية من أتباع الأديان والمذاهب الباطلة من كثرة الجوع وقلة النوم، فإن لهذه المجاهدات تأثيراً على نفسية الإنسان ولو كانت من غير طريق شرعي. وفي ذلك يقول بعض العرفاء: "وأما فراسة أهل الرياضة بالجوع والخلوة وتصفية البواطن من غير وصلة إلى جانب الحق، فلهم فراسة كشف الصور والأخبار بالمغيبات المختصة بالخلق، فهم لا يخبرون الا عن الخلق، لأنهم محجوبون عن الحق)[45].
الثالث: ما يحصل بسبب خاصية معينة تكون في النفس ترجع إما لعامل وراثي أو لوقت الولادة ومكانها أو لوضع البلد والبيئة الجغرافية. وقد اهتم علك "الباراسيكولوجيا" في عصرنا الحديث باكتشاف هذه الخاصية التي تتمتع بها بعض النفوس البشرية ودراسة الظواهر الخارقة للعادة التي تتولد من وجود هذه الخاصية عند البعض من الناس.
      ويهمنا قبل الدخول في بيان صور الكشفين الصوري والمعنوي ان ننبه على أمر مهم للغاية وهو ان حصول الكشف لإنسان ما لا يعني في تمام الأحوال استقامة هذا الإنسان واتباعه للشرع، لأننا قد بينا أن الكشف الصوري والذي يعني في بعض جوانبه اطلاع الإنسان على أسرار الناس وقضاياهم الخاصة قد يحصل في بعض الأحيان من خلال طرق غير شرعية، والمشكلة الكبرى هاهنا أن المخادعين وقطاع الطريق إلى الله ممن تحصل لهم هذه المكاشفات الصورية، يستغلون هذه المكاشفات لأغراضهم الدنيوية الخبيثة ويخدعون عامة الناس بأنهم أصحاب مقامات وقرب من الله، والناس لجهلها بهذه الأمور والحقائق تحسن الظن بهم وتعتقد أنهم في الواقع كذلك، وربما أعرضوا عن أصحاب الكشف المعنوي من العلماء من أولياء الله الصالحين الذين لا يرجون إلا الله ولا يخشون أحداً سواه لأنهم لا يخبرونهم عن مغيباتهم واسرارهم الخاصة، ولم يعلموا أن العرفاء الحقيقيين الذين لا يبتغون من وراء سعيهم ومجاهدتهم لأنفسهم على الوصول إلى الحق جل جلاله يعتبرون التفات الإنسان إلى الكشف الصوري واشتغاله بالاطلاع على أسرار الخلق من الحجب التي تحجب الإنسان عن الوصول إلى الحق. وهذا ما يذكرنا به بعض العرفاء حينما يقول: "ولما كان العالم ـ أي عامة الناس ـ أكثرهم أهل انقطاع عن الله واشتغال بالدنيا، مالت قلوبهم إلى أهل الكشف الصوري والأخبار عما غاب من أحوال المخلوقات فعظموهم واعتقدوا أنهم هم أهل الله وخاصته، وأعرضوا عن أهل الكشف الحقيقي، واتهموهم فيما يخبرون به عن الله، وقالوا: لو كان هؤلاء أهل الحق، كما يزعمون، لاخبرونا عن أحوالنا وأحوال المخلوقات، وإذا كانوا لا يقدرون على كشف أحوال المخلوقات، فكيف يقدرون على كشف أمور أعلى من هذه، فكذبوهم بهذا القياس الفاسد، وعميت عليهم الأنباء الصحيحة. ولم يعلموا أن الله تعالى قد حمي هؤلاء عن ملاحظة أهل الخلق وخصهم به، وشغلهم عما سواه، حماية لهم وغيرة عليهم. ولو كانوا ممن يتعرضون إلى أحوال الخلق، لما صلحوا للحق، فأهل الحق لا يصلحون للخلق، كما أن أهل الخلق لا يصلحون للحق)[46].
وأما بالنسبة إلى صور الكشفين الصوري والمعنوي فإنها كالتالي:
أولاً: صور الكشف الصوري: يذكر العارف الكبير السيد حيدر الآملي في كتابه "جامع الأسرار ومنبع الأنوار" صور الكشف الصوري فيقول بعد تقسيمه الكشف إلى معنوي وصوري: (وأعني بالصوري ما يحصل في عالم المثال من طريق الحواس الخمس، وذلك أما أن يكون على طريق المشاهدة، كرؤية المكاشفة صور الأرواح المتجسدة والأرواح الروحانية وأما أن يكون على طريق السماع، كسماع النبي الوحي النازل منظوماً أو مثل صلصلة الجرس أو دوي النحل كما جاء في الحديث الشريف. فإنه (صلى الله عليه وسلم) كان يسمع ذلك ويفهم المراد منه. أو يكون الكشف على سبيل الاستنشاق وهو التنسم بالنفحات الالهية والتنشق بفوحات الربوبية. قال صلى الله عليه وسلم: ن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً)[47].
أو يكون الكشف عن سبيل الملامسة، وهي الاتصال بين النورين أو بين الجسدين المثاليين)[48].
   ثم انتقل بالحديث عن  أنواع الكشف الصوري ، فقال: (وأنواع الكشف الصوري إما أن تتعلق بالحوادث الدنيوية أولاً. فإن كانت متعلقة بها سميت رهبانية لاطلاعهم ـ أي أصحابها ـ على المغيبات الدنيوية بحسب رياضتهم. وأهل السلوك، لعدم توقف همهم العالية في الأمور الدنيوية، لا يلتفتون إلى هذا القسم من الكشف لصرفها عن الأمور الأخروية وأحوالها، ويعدونه من قبيل الاستدراج والمكر بالعبد، بل كثير منهم لا يلتفتون إلى القسم الأخروي أيضاً، وهم الذين جعلوا مقاصدهم الفناء في الله والبقاء به. والعارف المحقق لعلمه بالله ومراتبه وظهوره في مظاهر الدنيا والآخرة، واقف معه أبداً ولا يرى غيره، ويرى جميع ذلك تجليات إلهية، فينزل كلاً منها منزلته، فلا يكون ذلك النوع أيضاً من الكشف استدراجاً في حقه، لأنه حال المبعدين الذين يقنعون من الحق بذلك، ويجعلون ذلك سبب حصول الجاه والمنصب في الدنيا. وهو تعالى منزه في الحقيقة من القرب والبعد المثبتين للغيرية مطلقاً. وإن لم تكن أنواع الكشف الصوري متعلقة بها ـ أي بالحوادث الدنيوية ـ، بأن كانت المكاشفات في الأمور الحقيقية الأخروية والحقايق الروحانية من الأرواح العالية والملائكة السماوية والأرضية، فهي مطلوبة معتبرة)[49].
ثانياً: صور الكشف المعنوي:
يعرف الآملي الكشف المعنوي بأنه "ظهور المعاني العينية والحقايق الغيبية". يشرع في بيان صوره ومراتبه فيقول: (وله أيضاً مراتب. أولها ظهور المعاني في القوة المفكرة من غير استعمال المقدمات وترتيب القياسات، بل بأن ينتقل الذهن من المطالب إلى مباديها، ويسمى بالحدس.
     ثم ظهور المعاني في القوة العاقلة المستعملة للمفكرة، وهي قوة روحانية غير حالة في الجسم، ويسمى بالنور القدس، والحدس من لوامع أنوارها، وذلك لأن القوة المفكرة جسمانية، فتصير حجاباً للنور الكاشف عن المعاني الغيبية، فهي أدنى مراتب الكشف، ولذلك قيل: الفتح على قسمين فتح في النفس، وهي يعطي العلم التام نقلاً وعقلاً. وفتح في الروح، وهو يعطي المعرفة وجوداً، لا عقلاً ولا نقلاً.
ثم ظهور المعاني في مرتبة القلب، وقد يسمى ظهورها بالالهام في هذا المقام، إن كان الظاهر معنى من المعاني الغيبية، لا حقيقة من الحقايق، أو روحاً من الأوراح المجردة، أو عيناً من الأعيان الثابتة لأن تجلي هذه الأشياء في هذا الموطن يسمى مشاهدة قلبية.
    ثم ظهور المعاني في مرتبة الروح، وينعت ظهورها بالشهود الروحي، وهو بمثابة الشمس المنورة لسماوات مراتب الروح وأراضي مراتب الجسد. فهو ـ أي المكاشف في مرتبة الروح ـ بذاته آخذ من الله العليم المعاني الغيبية من غير واسطة على قدر استعداده الأصلي، ويفيض على ما تحته من القلب وقواه الروحانية والجسمانية، إن كان من الكمل والأقطاب، وإن لم يكن منهم، فهو آخذ من الله بواسطة القطب على قدر استعداده وقربه منه، أو بواسطة الأرواح التي هي تحت حكمه من عالمي الجبروت والملكوت.
     ثم ظهور المعاني في مرتبة السر، ثم ظهورها في مرتبة الخفى بحسب مقاميهما، وظهور المعاني في هذه المرتبة لا يمكن إليه الإشارة ولا تقدر على إعرابه العبارة، كما قيل: الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة، وإذا صار هذا المعنى مقاماً أو ملكة للسالك، أتصل علمه بعلم الحق اتصال الفرع بالأصل، فحصل له أعلى المقامات من الكشف)[50]..
          وفي ختام هذه النقطة لابد من الإشارة إلى أنه توجد طرق أخرى معروفة للاتصال بالعالم الغيبي والاطلاع على بعض المغيبات كاستحضار الأرواح والجان والكهانة وغيرها، وللإسلام موقف صريح تجاه التعامل معه هذه الطرق لا يمكننا التغافل عنه في علاقتنا مع الغيب والمغيبات، وهذا الموقف يهدينا إلى أن الاتصال بالغيب والاطلاع على الأسرار والمغيبات لا ينبغي أن يجعل غاية يتجاوز من خلالها على حدود الشريعة ومقررات الدين، ويشعر الفرد من خلالها بالتعالي والامتياز على الآخرين، بالإضافة إلى كون هذه الطرق كطريق الكشف قد تخطىء في بعض مطياتها ونتائجها مما لا يبرر الاعتماد المطلق عليها في التوصل إلى الحقيقة التي ينبغي للإنسان أن ينشدها في علاقته وارتباطه بعالم الغيب)[51].
     ومن الاعتراضات التي تعرض لها الصوفية إنكارهم على قول الإمام البوصيري الصوفي في قصيدة البردة (المشهورة):
ومن علومك علم اللوح والقلم
والجواب: ما على المنصف إلا أن يقرأ هذه الأحاديث، وبعدها فلينكر المنكر على رسول الله !!!! ولن يستطيع لأنه يواجه الحق الذي لا يستطيع رده:
1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النارمنازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه))[52].
2- عن أنس رضي الله عنه أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أحفوه بالمسألة فخرج ذات يوم فصعد المنبر فقال: ( سلوني، لاتسألوني عن شيء إلا بينته لكم، فلما سمع القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر، قال أنس: فجعلت ألتفت يميناً وشمالاً فإذا كل رجل لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل من المسجد، كان يلاحى فيُدعى لغير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، عائذاً بالله من سوء الفتن ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:"لم أر كاليوم قط في الخير والشر، إني صورت لي الجنة والنار فرأيتهما دون هذاالحائط)[53].
3- عن حذيفة رضي الله عنه قال: (والله ما أدري أنسيَ أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعداً إلا قد سماه لنا بإسمه واسم أبيه واسم قبيلته)[54]
4- وقال الصحابي الجليل مالك بن عوف في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:  
ما إِن رأيتُ ولا سمعتُ بواحد
في النّاس كلِّهم كمثلِ محمّد
أوفي فأعطى للجزيل لمجتدٍ
ومتى تشأ يخبرك عما في غد[55]
5- وفي حديث اختصام الملأ الأعلى الذي ومما جاء فيه :
(( فعلمت ما في السموات والأرض وتلا :(وكذلك نُري إبراهيمَ ملكوتَ السموات والأرض وليكون من الموقنين)[56])[57] وفي رواية : فتجلى لي كل شيء وعرفت، وفي رواية الطبراني: ((فعلمني كل شيء)).
ومما يدل على انتفاء الإشكال أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وعرفت كل شيء) تدل على الشمولية، وأن اللوح والقلم شيء من الأشياء التي علمها المصطفى صلى الله عليه وسلم، لذلك كلام الإمام البوصيري رحمه الله مقتبس من هذا الحديث، فلا غرابة أن يقول عن وصفه صلى الله عليه وسلم:
ومن علومك علم اللوح والقلم
ننتقل لنرى الآثار وأقوال العلماء التي تقوي ما قلناه:
الكشف عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
وهو الذي شهد الله له بالصدِّيقية بقوله: {والذي جاء بالصِّدْقِ} [رسول الله صلى الله عليه وسلم]، {وصَدَّقَ بِهِ} [ أبو بكر رضي الله عنه] وإِني أذكر واقعة واحدة من كثير، تكشف لنا الغطاء عن ذلك، ومن أين لإِنسانٍ أن يحصيَ مآثِرَ أبي بكر رضي الله عنه.
عن عروة عن أبيه رضي الله عنهما، عن عائشة رضي الله عنها:
أن أبا بكر لما حضرته الوفاة، دعاها فقال: إِنه ليس في أهلي بعدي أحد أحب إِليَّ غنى منك، ولا أعز علي فقراً منك وإِني كنت نحلتك [النَّحلة: العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق][58]من أرض بالعالية جَدادَ[59]ـ يعني: صرام ـ عشرين وسقاً [الوسق: قال في القاموس: ستون صاعاً أو حمل بعير، وأوسق البعير حمله حملاً] ، فلو كنتِ جددْتِهِ تمراً عاماً واحداً انحازَ لك، وإِنما هو مال الوارث، وإِنما هما أخواك وأختاك. فقلتُ: إِنما هي أسماء، فقال: وذاتُ بطنِ ابنةِ خارجة، قد أُلقي في روُعي أنها جاريةٌ فاستوصي بها خيراً، فولدت أُمَّ كلثوم (([60]
قال التاج السبكي رحمه الله تعالى: - وفيه كرامتان لأبي بكر رضي الله عنه: (إِحداهما: إِخبارُه أنه يموت في ذلك المرض، حيث قال: وإِنما هو اليوم مالُ وارث.
والثانية: إِخبارُه بمولود يولد له، وهو جارية. والسر في إِظهار ذلك استطابة قلب عائشة رضي الله عنها في استرجاع ما وهبه لها ولم تقبضْه، وإِعلامها بمقدار ما يخصها، لتكون على ثقة، فأخبرها بأنه مال وارث، وأنَّ معها أخوين وأختين)[61]
الكشف عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيمَنْ قبلكم من الأمم ناس مُحدَّثون، فإِن يكُ في أمتي أحدٌ فإِنه عمر)[62]
    فإِن أمته عليه الصلاة والسلام أفضلُ الأمم، وإِذا ثبت أنهم وُجدوا في غيرها فوجودهم فيها أولى، وإِنما أورده مورد التأكيد، كقول القائل: إِن كان لي صديق ففلان. يريد اختصاص كمال الصداقة لا نفيها عن غيره. والمحدَّث: هو الملهَمُ الصادق الظن، وهو مَنْ أُوقِعَ في قلبه شيءٌ من قِبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدثه غيرُه.
    قال التاج السبكي رحمه الله تعالى: - كان عمر رضي الله عنه قد أمَّرَ سارية بن زنيم الخلجي على جيش من جيوش المسلمين، وجهزه على بلاد فارس، فاشتد على عسكره الحال على باب نهوند وهو يحاصرها، وكثرت جموع الأعداء، وكاد المسلمون ينهزمون، وعمر رضي الله عنه بالمدينة، فصعد المنبر وخطب، ثم استغاث في أثناء خطبته بأعلى صوته: (يا سارية! الجبل. من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم)[63] .فأسمع الله تعالى سارية وجيشه أجمعين، وهم على باب نهاوند صوتَ عمر، فلجؤوا إِلى الجبل، وقالوا هذا صوت أمير المؤمنين، فنجوا وانتصروا.
   وقال التاج السبكي رحمه الله تعالى: (لم يقصد إِظهار الكرامة، وإِنما كُشِف له، ورأى القوم عياناً، وكان كمن هو بين أظهرهم حقيقة، وغاب عن مجلسه بالمدينة واشتغلت حواسه بما دهم المسلمين، فخاطب أميرهم خطاب مَنْ هو معه)[64]
ففي هذه القصة شيئان:
الأول: الكشف الصحيح والرؤية العيانية على بعد آلاف الأميال، وأين - التلفزيون- في مثل هذه القصة الواقعة قبل أربعة عشر قرناً ؟
الثاني: إِبلاغ صوته ساريةَ على هذا البعد الشاسع.
-  ورأى عمر رضي الله عنه قوماً من مذحج فيهم الأشتر فصعَّد النظر فيه وصوَّب ثم قال: قاتله الله إِني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً فكان منه ما كان)[65]
- وأخرج ابن عساكر عن طارق بن شهاب قال:
(( إِنْ كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكْذِبُه الكِذبة فيقول: احبس هذه، ثم يحدثه بالحديث فيقول: احبس هذه، فيقول له: كل ما حدثتُك حق إِلا ما أمرتني أن أحبسه))[66].
وأخرج عن الحسن قال: ((إِن كان أحد يعرف الكذب إِذا حُدّث فهو عمر بن الخطاب))[67]
- وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هدية الحمصي قال:
((أُخبِر عمر بأن أهل العراق حَصبَوا أميرهم، فخرج غضبان، فصلى فسها في صلاته، فلما سلم قال: اللهم إِنهم قد لبَّسوا عليّ فالبس عليهم، وعجِّلْ عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية ؛ لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم ))
قال الشيخ عبد القادر عيسى رضي الله عنه: أشار به إِلى الحجاج. قال ابن لهيعة: وما وُلِدَ الحجاج يومئذ))[68].
     وذكر أحمد والطبرانى ، إخبار عمر عن موته بسبب رؤيا رآها، وما كان بين رؤياه وبين يوم طعن فيه إلا جمعة)[69].
الكشف عند عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه:
ذكر التاج السبكي رحمه الله تعالى في الطبقات وغيره: - (أنه دخل على عثمان رضي الله عنه رجل، كان قد لقي امرأة في الطريق، فتأملها، فقال له عثمان رضي الله عنه: يدخل أحدكم، وفي عينيه أثر الزنا ؟ فقال الرجل: أوحْيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لا، ولكنها فراسة المؤمن-. وإِنما أظهر عثمان هذا تأديباً للرجل، وزجراً له عن شيءٍ فعله)[70].
- عن الأصبغ رحمه الله تعالى قال: أتينا مع عليّ فمررْنا بموضع قبر الحسين، فقال علي: ((ههنا مناخ ركابهم، وههنا موضع رحالهم، وههنا مهراق دمائهم. فتية من آل محمد صلى الله عليه وسلم يقتلون بهذه العَرْصة، تبكي عليهم السماء والأرض))[71]
- وقال علي رضي الله عنه لأهل الكوفة: ((سينزل بكم أهلُ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستغيثون بكم فلم يغاثوا-فكان منهم في شأن الحسين ما كان))[72]
السيدة أم موسى عليه الصلاة والسلام
- كشف الله عز وجل لأم موسى عليه الصلاة والسلام عن بعض الغيب فقال:(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِيوَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)[73] فأخبر اللهُ أمَّ سيدنا موسى عليه السلام عن طريق الإلهام أنه سيرد ابنها إليها وسيجعله من المرسلين، وأم سيدنا موسى ليست نبية ولا رسولة لاستحالة النبوة والرسالة على النساء كما هو معروف في عقيدة أهل السنة والجماعة لقول الله عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم)[74] .
السيدة مريم أم عيسى عليه الصلاة والسلام
-. كشف الله عز وجل للسيدة مريم بنت عمران أم سيدنا عيسى عليه السلام بعدد من البشارات عن طريق سيدنا جريل عليه السلام:
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا *قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا )[75]
فاتضح من هذه الآيات مما يفيد ما نحن في صدده عدة دلالات :
1- يمكن للولي أن يرى الملائكة.
2-  يمكن للولي ن يسمع كلام الملائكة.
3- يمكن للولي أن يطلعه الله على بعض غيبه ، ففي هذه الآيات بشارة من الله عز وجل أنه سيرزقها غلاماً، وأنه سيجعله آية من الله ومعجزة للناس .
4-  جواز خرق العادات للأولياء"
ومن المعروف كما قلنا ان النساء ليس فيهم نبي ولا رسول وإنما قد يوجد منهم الأولياء، وقد صرح الله في حق السيدة مريم عليها السلام بأنها صديقة ، وفرْقٌ بين الصدّيق وبين النبي، فالصديقية مرتبة أعلى من مرتبة الصالحين والشهداء وتحت مرتبة الأنبياء كما قال تعالى في سورة النساء: [ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين] ، وقال تعالى مصرحاً بصديقية السيدة مريم :
(مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيم إِلارَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَة)[76]
الكشف عند شيخ ابن تيميه رحمه الله
- يقول ابن القيم متحدثا عن فراسة شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه :
))ولقد شاهدت من فراسة [شيخ الاسلام ابن تيميه رحمه الله] أمورا عجيبة ، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، أخبر [أي ابن تيمية] أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تكسر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام ، وأن كلَبَ الجيش وحدته في الأموال، وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة ! ثم أخبر[اى ابن تيميه] الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام: أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يميناً. فيقال له : قل إن شاء الله . فيقول{ابن تيميه }: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا وسمعته يقول ذلك . قال - اي ابن تيميه- : فلما أكثروا علي قلت : لا تكثروا، كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام ! قال: وأطعمت بعض الأمراء والعساكر حلاوة النصر قبل خروجهم للقاء العدو. وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر.
ولما طلب الى الديار المصرية واريد قتله بعدما انضجت له القدور وقلبت له الامور - اجتمع اصحابه لوداعه وقالوا قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك فقال والله لا يصلون الى ذلك ابدا , قالوا: أفتحبس قال: نعم ويطول حبسي ، ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس سمعته يقول ذلك.
ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك ، وقالوا : الآن بلغ مراده منك ، فسجد لله شكرا وأطال . فقيل له: ما سبب هذه السجدة ؟ قال: هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن، وقرب زوال أمره. فقيل: متى هذا ؟ قال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته، فوقع الأمر مثلما أخبر به، سمعت ذلك منه .
وقال مرة : يدخل عليّ أصحابي وغيرهم ، فأرى في وجوههم وأعينهم أمورا لا أذكرها لهم .
فقلت له - أو غيري - : لو أخبرتهم ؟ فقال: اتريدون ان اكون معرفا كمعرف الولاة؟
وقلت له يوما لو عاملتنا بذلك لكان ادعى الى الاستقامة والصلاح فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة او قال : شهر.
وأخبرني - اى ابن تيميه - غير مرة بأمور باطنة تخص بي مما عزمت عليه ، ولم ينطق به لساني !
وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ، ولم يعين أوقاتها ، وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها.
وما شاهد كبار اصحابه من ذلك اضعاف اضعاف ما شاهدته والله أعلم " -- اهـ
فيا للعجب ابن تيميه ينظر للوح المحفوظ ويخبر بأمور مستقبليه ويقسم عليها اكثر من سبعين يمينا ؟؟؟)[77]
وكيف لا يقول ابن تيمية مثل هذا القول وقد قال: ((والغيب المقيد ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الانس وشهدوه فإنما هو غيب عمن غاب عنه ليس هوغيبا عمن شهده والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا فيكون غيبا مقيدا أي غيبا عمن غاب عنه من المخلوقين لا عما شهده ليس غيبا مطلقا غاب عن المخلوقين قاطبة))[78]
الكشف عند الشيخ أبو القاسم الجنيد
   جاء يوما شاب نصراني في صورة مسلم إلى أبي القاسم الجنيد الخزاز فقال: له: يا أبا القاسم ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله، اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله؟
فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه إليه وقال: أسلم فقد آن لك أن تسلم قال: فأسلم الغلام[79]. ونلاحظ أن الإمام ابن كثير ذكر قصص هؤلاء وهو يعلم تفسير كلام الله: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول...- فارجع إلى تفسير ابن كثير وانظره في محله.
- روي عن ابن الجنيد أنه قال:
(رأيت إبليس في المنام وكأنه عريان فقلت: ألا تستحي من الناس؟ فقال - وهو لا يظنهم ناسا: لو كانوا ناسا ما كنت ألعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة إنما الناس جماعة غير هؤلاء فقلت: أين هم؟ فقال: في مسجد الشونيزي قد أضنوا قلبي واتعبوا جسدي، كلما هممت بهم أشاروا إلى الله عز وجل فأكاد أحترق قال: فلما انتبهت لبست ثيابي ورحت إلى المسجد الذي ذكر فإذا ثلاثة جلوس ورؤوسهم في مرقعاتهم فرفع أحدهم رأسه إلي وقال: يا أبا القاسم لا تغتر بحديث الخبيث وأنت كلما قيل لك شئ تقبل. فإذا هم: أبو بكر الدقاق. وأبو الحسين النوري. وأبو حمزة محمد بن علي الجرجاني الفقيه الشافعي.([80]
ولا مجال لمؤمن أن ينكر شيئاً من آيات النفي والإثبات ونحن بحمد تعالى نؤمن بالكل وليس بينها تناقض، فإن كلام الله تعالى بريء من التناقض قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)[81] ً
قال العلامة ابن حجر المكي:
    ما ذكرناه في الآية صرح به النووي في فتاويه فقال :(معناها لا يعلم ذلك استقلالاً وعلم إحاطة بكل المعلومات إلا الله وأما المعجزات والكرامات فبإعلام الله لهم)[82].
وقال أيضاً : ولا ينافي في ذلك قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)،     ( لأن هذا أخبار عمن قصّ عليه أو أنه قص عليه الكل بعد نزول تلك الآية  )[83]. .
قال العلامة شهاب الدين الخفاجي :
وهذا لا ينافي الآيات الدالة على أنه لا يعلم الغيب إلا الله وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) فإن المنفى علمه من غير واسطة، وأما اطلاعه عليه بإعلام الله له فأمر متحقق بقوله: (فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)[84] .
قال ابن عطاء الله في لطائف المنن :
(اطلاع العبد على غيب من غيوب الله بنوره منه ، بدليل اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى لا يستغرب وهو معنى قوله: كنت بصره الذي يبصر به ، فمن كان الحق بصره فاطلاعه على غيبه غير مستعبد)[85]
قال العلامة محمود بن إسرائيل (ابن قاضي سماونة):
 )يمكن التوفيق بأن المنفي هو العلم بالاستقلال لا العلم بالإعلام أو المنفي هو المجزوم لا المظنون ويؤيده قوله تعالى: ( أتجعل فيها من يفسد فيها ( لأنه غيب أخبر به الملائكة ظناً منهم أو بإعلام الحق فينبغي أن يكفر لو أدعى مستقلاً لولا أخبر بالإعلام في نومه أو يقظته بنوع من الكشف أذ لا منافاة بينه وبين الآية لما مر من التوفيق كما مرّ)[86] .
قال العلامة الحافظ جلال الدين السيوطي :
)ذهب بعضهم إلى أنه صلى الله عليه وسلم أوتي علم الخمس أيضاً، وعلم وقت الساعة والروح، وأنه أمر بكتم ذلك )[87] .
قال العلامة الزرقاني المالكي :
(وقد أعلمه الله تعالى ما عدا مفاتح الغيب الخمسة، وقيل حتى هي وأمره بكتمها كما في الخصائص)[88].
قال الإمام محمد عبد الرؤوف المناوي:
 ("خمس لا يعلمهن إلا الله " على وجه الإحاطة والشمول كلياً وجزئياً فلا ينافيه اطلاع الله بعض خواصه على كثير من المغيبات حتى من هذه الخمس لأنها جزئيات معدودة وإنكار المعتزلة مكابرة )[89].
    فقد اتضح أن المنفي هو العلم الذاتي والاستقلالي الذي يكون من غير واسطة وإعلام ، والمثبت هو العلم بواسطة إعلامه تعالى وفيضه لا غير .
قال الشيخ  عبد العزيز الدباغ :
(وكيف يخفي أمر الخمس عليه صلى الله عليه وسلم والواحد من أهل التصوف من أمته الشريفة لا يمكنه التصرف إلا بمعرفته هذه الخمس)[90].

قال العلامة السيد يوسف السيد هاشم الرفاعي :
فهذا ربنا تبارك قد نفى نفياً لا مرد له أنه ( لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) واثبت إثباتاً لا ريب فيه في آية أخرى أنه ( إلا من ارتضى من رسول ) فالكل حق والكل إيمان ومن أنكر شيء منهما فقد كفر بالقرآن فمن نفى مطلقاً ولم يثبت بوجه فقد كفر بآيات الإثبات ، ومن أثبت مطلقاً ولم ينف بوجه فقد كفر بالآيات النافيات والمؤمن يؤمن بالكل ولا تتفرق به السبل)[91]
علم الله الخضر
قَالَ : تَعَالَى ) وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) [92].
ففي هذه الآية علم الله الخضر اي علمه سبحانه اشياء من ) عَالِمُ الْغَيْبِ كما ذكر في جميع التفاسير
الإمام ابن كثير
قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعال: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) هذه كقوله تعالى: ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ )[93] وهكذا قال هاهنا: إنه يعلم الغيب والشهادة، وإنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه؛ ولهذا قال:    ( فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) وهذا يعم الرسول الملكي والبشري[94].
قال الطبري
وقوله ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ) يقول: وهبنا له رحمة من عندنا( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) يقول: وعلمناه من عندنا أيضا علما. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة     ( مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) : أي من عندنا علما.
وقال البغوي
في تفسير قوله سبحانه في حق سيدنا الخضر رضي الله عنه : (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) أي: علم الباطن إلهاما ولم يكن الخضر نبيا عند أكثر أهل العلم)[95]..
جاء في شرح الحكم العطائية
أي من علمك اللدني الذي اختزنته عندك لخاصة أوليائك كما قلت في كتابك العزيز في حق الخضر عليه السلام : (( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[96].
ابن تيمية
يقول ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى  حيث يقول ما نصه: ) وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين ، الذي قال فيه ((فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا))، والغيب المقيد: ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الإنس وشهدوه، فإنما هو غيب عمن غاب عنه ، ليس هو غيبا عمن شهده .والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا ، فيكون غيبا مقيدا أي غيبا عمن غاب عنه من المخلوقين ، لا عمن شهده ـ ليس غيبا مطلقا غاب عن المخلوقين قاطبة )[97] .
وقال ابن تيمية في تفسير سورة آل عمران مستدلاً بآية فلا يظهر على غيبه احداً وقوله وأما ما أظهره لعباده فإنه يعلمه من شاءوقال:  (فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ([98] فغيبه الذى اختص به لا يظهر عليه أحداً إلا من ارتضى من رسول، والملائكة لا يعلمون غيب الرب الذى اختص به.
وأما ما أظهره لعباده فإنه يعلمه من شاء، وما تتحدث به الملائكة فقد تسترق الشياطين بعضه، لكن هذا ليس من غيبه وعلم نفسه الذى يختص به، بل هذا قد أظهر عليه من شاء من خلقه)[99]
وقال ابن تيمية ايضاً في النبوات:  فقد ظهر أنّ من آيات الأنبياء ما يختصّ به النبيّ، ومنها [ما] يأتي به عددٌ من الأنبياء، ومنها ما يشترك فيه الأنبياء كلّهم ويختصّون به؛ وهو الإخبار عن الله بغيبه الذي لا يعلمه إلا الله؛ قال: (عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَاً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِم وَأَحْصَى كُل شَيْءٍ عَدَدَاً).
لكن ما يظهر على المؤمنين بهم من الآيات؛ بسبب الإيمان بهم: فيه قولان: كرامات الأولياء: هل هي من آيات الأنبياء أم لا فيه قولان: قال طائفة: ليس ذلك من آياتهم. وهذا قول من يقول: من شرط المعجزة أن] يقارن[دعوى النبوة، لا يتقدّم عليها، ولا يتأخّر عنها؛ كما قاله هؤلاء الذين يجعلون خاصّة المعجزة: التحدّي بالمثل، وعدم المعارضة، ولا يكون إلا مع الدعوى، كما تقدم. وهو قولٌ قد عرف فساده من وجوه. والقول الثاني: وهو القول الصحيح: أنّ آيات الأولياء هي من جملة آيات الأنبياء؛ فإنّها مستلزمة لنبوّتهم، ولصدق الخبر بنبوّتهم؛ فإنه لولا ذلك، لما كان هؤلاء أولياء، ولم [يكن] لهم كرامات)[100].
وقال الشوكاني في فتح القدير
( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) وهو ما علمه الله سبحانه من علم الغيب الذى استأثر به)[101].
وقال الألوسي:
 وكذا في قوله سبحانه: ( وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) أى علماً لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره وهو علم الغيوب وأسرار العلوم الخفية، وذكر ( لَّدُنَّا ) قيل لأن العلم من أخص صفاته تعالى الذاتية وقد قالوا: إن القدرة لا تتعلق بشيء ما لم تتعلق الإرادة وهي لا تتعلق ما لم يتعلق العلم فالشيء يعلم أولا فيراد فتتعلق به القدرة فيوجد .وذك أنه يفهم من فحوى( مّن لَّدُنَّا ) أو من تقديمه على (عِلْمًا) اختصاص ذلك بالله تعالى كأنه قيل علماً يختص بنا ولا يعلم إلا بتوقيفنا، وفي اختيار(علمناه ) على آتيناه من الإشارة إلى تعظيم أمر هذا العلم ما فيه، وهذا التعليم يحتمل أن يكون بواسطة الوحي المسموع بلسان الملك وهو القسم الأول من أقسام الوحي الظاهري كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم في أخباره عن الغيب الذي أوحاه الله تعالى إليه في القرآن الكريم، وأن يكون بواسطة الوحي الحاصل بإشارة الملك من غير بيان بالكلام وهو القسم الثاني من ذلك ويسمى بالنفث كما في حديث إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله تعالى واجملوا في الطلب والإلهام على ما يشير إليه بعض عبارات القوم من هذا النوع ، ويثبتون له ملكاً يسمونه ملك الإلهام ، ويكون للأنبياء عليهم السلام ولغيرهم بالإجماع ، ولهم في الوقوف على المغيبات طرق تتشعب من تزكية الباطن)[102].
الامام الجنيد:
وقال الجنيد قدس سره: (هو الاطلاع على الأسرار من غير ظن فيه ولا خلاف واقع لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات ويحصل للعبد إذا حفظ جوارحه عن جميع المخالفات وأفنى حركاته عن كل الإرادات وكان شبحا بين يدي الحق بلا تمني ولا مراد، وقيل: هو علم يعرف به الحق سبحانه أولياءه ما فيه صلاح عباده. وقال بعضهم: هو علم غيبي يتعلق بعالم الأفعال وأخص منه الوقوف على بعض سر القدر قبل وقوع واقعته وأخص من ذلك علم الأسماء والنعوت الخاصة وأخص منه علم الذات.)[103]
     وما نريده هو التنبيه على ضرورة التطلع إلى الغيب وما وراء عالم المادة والطبيعة ولكن من موقع الرغبة في توثيق العلاقة بين العبد وربه، لا من موقع التفكير في الاستئثار بمعلومات ومعارف غيبية يشكل العلم بها امتيازاً نفسياً للإنسان وذلك لأن الإسلام لا يعطي للعلم قيمة مجردة عن العمل، وإنما العلم يراد له أن يكون مقدمة للعمل ووسيلة لتحقق الإنسان بحقيقة العبودية، وكثيرون أولئك الذين حجبهم علمهم عن الله لأنهم لم يعوا أن العلم إنما هو المنزل الأول من منازل السلوك إلى الله، وانه لا ينبغي للسالك إلى الله التوقف عنده والاكتفاء به بل يلزمه تجاوزه إلى منازل القرب الأخر.
     وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين)، ( طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل)[104].اهـ
    وقال الخطابي: وسئل الفضيل بن عياض عن قوله صلى الله عليه وسلم "طلب العلم فريضة على كل مسلم " فقال : كل عمل كان عليك فرضاً فطلب علمه عليك فرض ، وما لم يكن العمل به عليك فرضاً فليس طلب علمه عليك بواجب)[105] . اهـ
المرشد الخبير الشيخ أبوعاقلة الكشيف
    ومن المرشدين الخبراء وممن اشتهر باسم الكشيف بأرض السودان الشيخ محمد (أبوعاقلة) بن الشيخ حمد النيل بن الشيخ دفع الله بن السيد مقبل ، المتوفى فى العام 1134هجرية الموافق 1721 ميلادية  بعد بلوغه من العمر 157 عاما وقبر مع آبائه العركيين بابى حراز فى العام 290عام، وآل الامر لابنائه وابناؤئهم المشهورين بالولاية والصلاح حتى وصلت الامانة الى خليفتهم الآن الشيخ عبد الله أزرق طيبة أمد الله فى عمره  كما يلى:
خلفه ابنه الشيخ عبد الله الطريفى، من بعده ابنه الشيخ محمد القنديل من بعده ابنه الشيخ يوسف ابشرا من بعده ابنه الشيخ محمد الزاهد من بعده ابنه الشيخ أحمد الريح من بعده ابنه الشيخ حمد النيل(امدرمان) من بعده ابنه الشيخ عبد الله من بعده أخوه الشيخ عبد الباقى أزرق طيبة من بعده ابنه الشيخ حمد النيل من بعده اخيه الشيخ أحمد الريح من بعده ابنه الشيخ أبوعاقلة من بعده اخيه الشيخ عبد الله بن الشيخ أحمد الريح بن الشيخ عبد الباقى أزرق طيبة ، وكلهم ممن اشتهر بالولاية والصلاح والارشاد فى زمانه)[106].
ترجم له ود ضيف الله: اسمه محمد وعاقلة ابنته وبها كني. سلك طريق القوم على عمه الشيخ أبو إدريس وأرشده، وسلك لأناس وأرشدهم، الفقير والفاسق والحر والعاني، وله منادي ينادي في الناس:” يا عطشان، يا عطشان”، وسمي الكشيف لأنه يخبر الناس بما في ضمايرهم وما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، ولما دنت وفاته وهو في خلوته الفوقانية فقال أنا راحل من هذه الدار، فالناس ظنوا أن رحيله إلى البحر، فتوفاه الله عن قريب. وله من الأولاد : عبد الله الطريفي الذي اشتهر ذكره وطاب فرعه كما سنبينه في حرف العين إنشاء الله تعالى، وشمس الدين وأبو إدريس وحمد أبوقرون وكلهم أخيار صالحون)[107].
و نظم الشريف يوسف الهندى[108] قصيدة بعنوان: لا اله الا الله ايا نازلا ارض الحراز على التقا، يشير فيها  بأن الشيخ من أهل الكشف ويقول:

ايا نازلا ارض الحراز على النقا
                          حظيت واعطيت المرام مع المنا
فاغر سلامى للذى كان اسمه
                      ابو عاقله الكشيف من كان قد دنا
امام له العلم المحيط شريعة
                     وطرقا له , يعفو المسئ ولو جنى
ينادى لديه ياعطاش فأوردوا
                         ويا عاصين العفو لموا لقد دنا
وينبئ عن سر القوب وما بها
                          وما تحفه اهل السرائر باطنا
ويخير اهل البيت عما ببطنه
                           وما هو مدخوراً به او ممكنا
ويكشف سر اليوم ثم الذي غدا
                  وعن رحلتنا منه الي الاخرى اعلنا
بسر له اللهم اكشف كروبنا
                       جميعا واغفر لنا يا الهى ذنبنا
واغسل جسوما ثم قلبا وقالبا
                             وارضا احو الا كذا ذنوبنا
واقض حوائج الكل يا له الغنى
                  عن الكل في الحالات واهب الغنى
تعاليت عن شبة وثم مماثل
                      وجلت صفاة منك يا كاشف العنا
وصل الهي للنبي ومنه له
                    مقام لديك اليوم في الاخرى والدنا
وسلم على اهل الصلاح جميعهم
                  وارض عن السادات كى يبلغوا المنا
واعف عن الهندى يوسف حاضرا
                            بجاه له الكشيف وارض تحننا
واكم لهذا الجمع في الحال يا ولى
                               واعطهم قصداً ونورا مبينا
وعم ابناء الكشيف بالامن التقى
                    واحيى احباء لكي يدركوا الهنا
واحمد ولد عالم له اقض حاجة
                          تطير لدفع الدواهي ها هنا[109]
وقد نظم الشاعر الحسن بن القرشى[110] قصيدة رائعة فى مناقب الشيخ محمد أبوعاقلة الكشيف ،  وهذه إحدى قصائد الشيخ ود قرشي رضي الله عنه وأرضاه :
 يقول فى مطلعها: 
يا منادى لى كشيفنا ** أبو عاقلة سيد توظيفنا
*****
مولانا مـــن تكليفنا اغفر لنا تصحيفنــا
بالنبى واصحابو قيفنا وألحـق بالجيلى ضيفنا
*****
عرج علـى كشيفنا أبوعاقلة سيــد توظيفنا
أيضا صاحب تصريفنا مدخور مونـة خريفنا
*****
من ما نشأ وقامـا بـي نقص لـم يلامــا
محسون فعله وكلاما في الله يوت اصطلامـا
*****
قـرأ القـرآن أول وعلـى العلـم تحــول
فى سعي أفكاره جول بها قصـد الله وهرول
*****
أول ذكــر الله فاهــو ثم بي أعضــاه
إن ذكر القوم كفاهو شرفــاً بي هذا جـاه
*****
ثابت عملو وصاقـل بشواغل غير زاقــل
غير الله لا ليهو شاغل بي سر الأمـي ناقـل
*****
وجلال الله شاهـد فـى ما ســواه زاهـد
ودوماً تلقاهو ساهـد وفي المطلوب مجاهـد
*****
فى سيرو قوى وشاطر عزمو خرق الخواطر
ودواماً دمعو هاطل إجلالاً مـن ليه فاطـر
*****
إلى الركاوي شائع إرســال بلا منــازع
للدِيهِم بالمشارع رجعـن مـن غير قاصـع
*****
من صالحين وثاقـي لي صفـوة الخــلاق
وصلاح أبناهو يلاقى لي شيخنا عبد الباقـى
*****
صلى سلم ذو الجلالـه لي المصطفى وآلـه
من الحسن المقالـه ود قرشى ينيل وصالـه
*****
    لقد سعى مشايخ التصوف إلى بيان المخاطر التي يمكن أن تقع للإنسان في اتصاله بعالم الغيب عبر طريق الكشف والمشاهدة، مع تأكيدهم المسبق بإمكانية اتصال الإنسان بعالم الغيب من خلال هذا الطريق الذي يتأتى للإنسان من خلال تزكية النفس ومجاهدتها بآداب الشريعة ورسومها، بخلاف من أنكر إمكانية هذا الأمر ورأى في مكاشفات العرفاء(أولياء الله) ومشاهداتهم جنوحاً إلى الخيال وضرباً من الوهم.
      وعلى كل حال فقد أدرك العلماء أهل الله إمكانية الاشتباه والخطأ في ما يتوصل إليه أصحاب المكاشفات من نتائج معرفية عبر اتصالهم الروحي بعالم الغيب، ومن هنا بدأ العلماء أهل الله يؤكدون على قيود معينة لا يمكن لمكاشفة العارف أن تتجاوزها أو أن تحاول اسقاطها، وأهم تلك القيود أن لا تخالف المكاشفة الشريعة في مقرراتها وأحكامها، ومن هنا قال الصوفية أهل الله: "إن الشريعة مقدمة على الحقيقة". وأكدوا في عدة مقامات على ضرورة اتباع الأنبياء والرسل (عليهم السلام) فيما جاءوا به عن الله تعالى، والذين هم خلاصة خاصة أهل الوجود والشهود، فواجب لطالب الحق اتباعهم والاهتداء به. قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[111] وبقدر متابعته للأنبياء (عليهم السلام) ـ يظهر له الأنوار الإلهية والأسرار الربانية.
     ولهذا احتجنا بعد الأنبياء والرسل (عليهم السلام) إلى الإمام المرشد، لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون)[112] وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الثابت الذي رواه أبوداود: " هلا سألوا، فإن دواء العي السؤال"[113] لأن كل واحد ليس له قوة التمييز بين إلالهامين الحقيقي وغير الحقيقي، وبين الخاطر الإلهي والخاطر الشيطاني، وغير ذلك.
     أضف إلى ذلك أن الصوفية طال ما نبهوا على ضرورة وأهمية كون الإنسان في بداية سلوكه إلى الله تحت نظر المرشد الخبير الذي يكشف له عما يمكن أن يلتبس عليه في أثناء مجاهدته لنفسه.
    وخلاصة ما نريد قوله في ختام هذه الفصل أيضاً أن على المسلم أن يكون دقيقاً في إرتباطه بعالم الغيب وتعامله مع مسائل الروح، وأن يعي تمام الوعي انه مهما بالغ في العبادة والتقرب من الله فإن هناك الشيطان اللعين الذي يسعى لصده عن سبيل الله بكل وسيلة وألف حيلة وأن عليه أن يستعين كل الاستعانة بالله سبحانه وتعالى في جميع مراحل جهاده مع النفس الأمارة بالسوء، وإن يسأل الله عز شأنه أن يبصره ما يكايد به الشيطان ويلهمه ما يعدو له.


[1] سورة الجن الآية:26،27
[2] سورة لقمان الآية:34
[3] سورة السجدة الآية: ( 7 ـ 9)
[4]سورة الأنفال الآية: ( 29)
[5] سورة الحديد الآية: ( 28)
[6] سورة العنكبوت الآية: ( 69)
[7] كتاب على حافة العالم الأثيري: ص( 25 ـ 26).- فندلاي
[8] المصدر السابق ص ( 25 ـ 26).
[9] المصدر السابق ص ( 26).
[10] سورة الإسراء الآية: ( 85)
[11] كتاب فتح الباري ج 11 ص 298 - العلامة ابن حجر العسقلاني
[12] سورة الفيل الآية: 1
[13] سورة البقرة الآية:1
[14] سورة الجن 26-27
[15] سورة الحشر الاية 7
[16] سورة الحشر الآية: (7)
[17]التفسير المطول - سورة البقرة 002 - الدرس تفسير الأيات 3-5، عالم الشهود و عالم الغيب-لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي http://nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=126&id=97&sid=0&ssid=243&sssid=244
[18] [18] سورة البقرة الايات:  1-3
[19] سورة الملك الاية 12
[20] سورة البقرة الاية: 216.
[21] سورة يوسف الآية: 76
[22] سورة الروم الاية 7
[23] سورة الإسراء الآية: 85
[24] سورة الاسراء 85 
[25] سورة النمل الاية: 65
[26] سورة يوسف 21
[27] سورة النمل 65
[28] سورة النمل الاية: 65
[29] شبابنا ومشاكلهم الروحية - السيد كامل الهاشمى  http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/akhlagh/shbabona/books/shababona/005.htm
[30] سورة الشورى الآية: ( 51)
[31] سورة يونس الآية:( 35)
[32] سورة الحج الآية: ( 6)
[33] سورة الأحزاب الآية:( 4)
[34] سورة التحريم الآية: ( 6)
[35] سورة الشعراء الآية: ( 192 ـ 193)
[36] سورة النجم الآية): 2 ـ 4)
[37]سورة الحاقة الآية:  40 ـ 47
[38] سورة الأعراف الآية: ( 104 ـ 105)
[39] سورة الإسراء الآية: ( 105)
[40] سورة البقرة الآية: ( 176)
[41]سورة البقرة الآية: ( 213)
[42] سورة النحل الآية: ( 68)
[43] سورة القصص الآية: ( 7)
[44] رسائل قيصري، رسالة التوحيد والنبوة والولاية 18 – داود قيصرى.
[45] حيدر الآملي: جامع الأسرار ومنبع الأنوار 468.
[46] المصدر السابق ص 469.
[47] مجمع الزوائد: 10/234 الهيثمى
[48] جامع الأسرار ومنبع الأنوار(ص 462) حيدر الآملي
[49] المصدر السابق ص (465 ـ 466).
[50] حيدر الآملي: جامع الأسرار ومنبع الأنوار 469 ـ 471
[51] شبابنا ومشاكلهم الروحية - السيد كامل الهاشمى http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/akhlagh/shbabona/books/shababona/005.htm
[52] رواه البخاري 3020 .
[53] رواه البخاري (6678) ومسل (2359) واللفظ لمسلم.
[54] رواه أبو داوود (4243).
[55]الإصابة في تمييز الصحابة 9/64 - الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني
[56] سورة الأنعام الآية: ( 75)
[57] أخرجه الإمام أحمد (22162) في مسنده وأخرجه الترمذي كتاب التفسير تفسير سورة ص رقم 3233 وقال حسن صحيح
[58] كذا في غريب الحديث لابن الأثير ج4 ص139
[59] الجداد: قال ابن الأثير: الجداد بالفتح والكسر: صرام النخل وهو قطع ثمرتها يقال جد الثمرة يجدها جداً ج1. ص173
[60] أخرجه ابن سعد في الطبقات، ذكر وصية أبي بكر. ج3. ص195
[61] حجة الله على العالمين" للشيخ يوسف النبهاني البيروتي ص 860 .
[62] رواه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة
[63]    قال العجلوني: وإِسناده كما قال الحافظ ابن حجر حديث حسن ج2. ص380
[64] حجة الله على العالمين" للشيخ يوسف النبهاني البيروتي ص860.
[65] فيض القدير شرح الجامع الصغير" للعلامة المناوي ج1. ص143.
[66] تاريخ الخلفاء" ص127ـ128- للعلامة جلال الدين السيوطي
[67] المصدر السابق ص127ـ128.
[68] المصدر السابق ص127ـ128
[69] مسند بن حنبل ص1 48 و 51، و في رياضه ص2 ،74  - الطبري
[70] حجة الله على العالمين" للنبهاني ص862.
[71] الرياض النضرة في مناقب العشرة" للمحب الطبري ج2. ص295.
[72] فيض القدير شرح الجامع الصغير" للعلامة المناوي ج1. ص143.
[73] سورة القصص آية 7
[74] سورة يوسف الآية: 109
[75] سورة مريم من الآية 16 حتى الآية 21.
[76] سورة المائدة الآية 75

[77] كتاب  مدارج السالكين 2/510  - ابن القيم
[78] مجموع فتاوى ابن تيمية (ج 16ص110 )
[79] تاريخ ابن كثير 11 ص 114 .
[80] تاريخ ابن كثير 11 ص 97، وابن الجوزي في صفة الصفوة ج2 ص 234  .
[81] سورة النساء 82
[82] الفتاوى الحديثية ص268- احمد بن حجر المكي 
[83] المصدر السابق ص153
[84] نسيم الرياض أحمد شهاب الدين الخفاجي 3/150 - ط . دار الفكر – بيروت .
[85] نسيم الرياض أحمد شهاب الدين الخفاجي 3/150 - ط . دار الفكر – بيروت
[86] جامع الفصول ، العلامة محمود بن إسرائيل 2/220.
[87] الخصائص الكبرى / لجلال الدين السيوطي ج2 ص195
[88] شرح المواهب اللدنية، لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني ج1/ص10 - ط . العامرة، مصر
[89] فيض القدير / للإمام محمد عبد الرؤوف المناوي /ج3ص458 - ط بيروت
[90] الإبريز / لأحمد بن المبارك - ص273 - مصر
[91] عقائد أهل السنة ص 245
[92] سورة الكهف رقم الآية 65
[93] سورة البقرة: 255
[94] تفسير ابن كثير (6 / 284 ).
[95] معالم النزيل في التفسير (3/584) – الامام البغوى
[96] شرح الحكم العطائية (149/1) – ابن عطا الله السكندرى
[97] مجموع الفتاوى ( 16 / 110)- ابن تيمية
[98] سورة الجن الآية : 26، 27  .
[99] مجموع الفتاوى ج 14 ص197- ابن تيمية
[100] النبوات (-823- و-824-)
[101] فتح القدير: 3 / 299الشوكاني
[102] تفسير الآلوسي - ج ١٥ - الصفحة ٣٣٠- الآلوسي
[103]  تفسير الألوسي = روح المعاني -ص 3416
[104] القرطبى – الامام القرطبى(4/186)
[105] تفس معالم السنن (4/186) - الخطابى
[106] رئاسة السجادة الفادرية العركية – طيبة الشيخ عبد الباقى راجع طبقات ود ضيف الله
[107]  كتاب الطبقات فى خصوص الاولياء والصالحين والعلماء  فى السودان ص 26 – محمد ضيف الله محمد – الدر السودانية للكتب
[108] هو الشريف يوسف بن محمد الامين بن الشريف يوسف بن الشريف أحمد بن الشريف زين العابدين  علق به لقب الهندى ( وقيل ان هذا اللقبجاءه من أن مرضعة جده السادس محمد بمكة كانت هندية الاصل)، وهو اول من دخل من اجداده السودان فى منتصف القرن العاشر الهجرى تقريبا، ويتصل نسبه بالنبى الكريم صلى الله عليه وسلم . . رحل الشريف يوسف الى الخرطوم بأمر الحكومة الانجليزية، فاختار ضاحية برى اللاماب (شرق الخرطوم)،فى عام 1327هـ الموافق 1908م وإستقر هناك. إنقطع للذكر والتعبد فترات طويلة، وشرع فى تأسيس طريقته الدينية التى تسمت بإسمه ( الطريقة الهندية ) ولها أساس وأوراد ورواتب ومدائح وموالد وكتب سيرة وفقه. له مؤلفات كثيرة: دينية وأدبية وتاريخية (نثراً وشعراً ) اخذت من وقته أكثر من ثلاثين عاماً. وفاته عام 1942م وعمره حينئذٍ 73 عاماً ، ودفن ببرى. ديوان رياض المديح ص 9 الطبعة الثانية1998م – الشريف يوسف الهندى

[109] ديوان الشريف يوسف الهندى ص 231
[110] الشيخ الحسن ود قرشي : ولد سيدي الشيخ ود قرشي بقرية سقادي سنة 1873م ، وهو من أبناء الشيخ حامد أبعصا من قبيلة الجعليين ، حفظ القرآن وتربى بنفس القرية . بعدها توجه إلى قرية أبي حراز حيث أخذ الطريقة القادرية العركية على يد سيدي الشيخ الغوث محمد الشيخ يونس . كتب لهم سيدي الشيخ محمد خطابا لقراءة العلم بأمدرمان عند سيدي الشيخ محمد البدوي هو وأخيه سيدي الشيخ الحسن صلاح ، فذهبوا ونالوا الشهادة العلمية ، ثم رجعوا إلى أبي حراز حيث أجيزوا بالمشيخة . عرف سيدي الشيخ ود قرشي بفناءه في مديح السادة العركيين في طيبة وأبي حراز .  توفي سيدي الشيخ سنة 1936م  رضي الله عنهم جميعا وسيرنا على نهجهم
[111] سورة آل عمران الآية 31
[112]سورة الانبياء الآية:7
[113] سنن ابى داود 1/93 ح 336 كتاب الطهارة.




الفصل الخامس
النفس البشرية و الوصول إلى المعرفة بالحق
       كل من استعد لمناجاة الله تعالى ولقائه انقطع قلبه الى الله وحده وانحصر حبه فيه وحده ورفض كل شئ سواه وانسد قلبه عن الدنيا وما فيها واعرض بهمته عن نفسه ومطالبها وخمدت منها نيران الشهوات المتاججة واخبت قلبه الى الله وعكفت همته على الله وعلى محبته وايثار مرضاته والتفانى فى امتثال مأموراته والاستنكاف عن التنازل لاقتحام منهياته وقلبه دائماً فى صفاء ونقاء واستنارة وانجلاء هكذا حتى يلمع كالبلورة فيمثل له صور المعلومات المبصرة والمسموعة والمرئية والمتلوة فى مخيلته البسيطة فى عالم مثاله على أكمل وأجمل ماتكون عليه فيصير له دون الناس مشارب يختص بها لا يحصل منها على شئ الا من سلك على طريقته..
     فاما معرفة الله عز وجل فهو كما يقول الشيخ الجيلانى:  ان يلزم العبد قربه عز وجل وقيامه عليه وقدرته عليه وشهادته وعلمه به وانه رقيب حفيظ وانه واجد ماجد لا شريك له في ملكه وانه عندما وعد صادق ، وعندما ضمن واف، وعندما دعا اليه وندب اليه مليء، وله وعد ينجزه ووعيد صادق ينفذه ومقام تصير اليه الخلائق، ومصدر يتصرف من عنده وله ثواب وعقاب، ليس له شبيه ولا مثيل، وانه كاف رحيم ودود سميع عليم وانه كل يوم هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن، يعلم الخفي وفوق الخفي، والضمير والخطرات والوسوسة والهمة والإرادة والوساوس والحركة والطرفة والغمزة والهمزة وما فوق ذلك وما دون ذلك مما دق فلا يعرف وجل فلا يوصف مما كان وما يكون وانه عزيز حكيم. فاذا لزم هذا قلبه في اليقين الراسخ والعمل النافع ولزم ذلك كل عضو منه وكل جارحة وكل مفصل وعرق وعصب وشعر وبشر وكذلك يتيقن ان الله تعالى قائم على ذلك عالم به، أحاط به علما لا تغزب عنه عازبة وانه خلقه فأحسن خلقه وصوره فتحسن صورته وثبت جميع ذلك في قلبه وصح به عزمه وأكمل عقله وثبتت حينئذ المحاسبة ووصلت اليه المعرفة وقامت عليه الحجة وكان في مقام من الله شريف ([1].  والمانع من الوصول إلى هذه الفوائد المنيفة والجواهر الشريفة  هو الشيطان والنفس وقد نهانا الله سبحانه وتعالى أن نسلك الطريق الذى يدعو اليه الشيطان قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[2].
    كما وصف الله سبحانه وتعالى النفس بأنها أمارة بالسؤ قال تعالى: (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[3]. فالشيطان مطيته الى اضلال الانسان هذه النفس التى يزين لها كل شهوة جسدية تبعدها عن العالم العلوى فتخالف شرائع الله.
      يقول عنها الشيخ الجيلانى: وأما معرفة النفس الأمارة بالسوء فيضعها حيث وضعها الله عز وجل ويصفها بما وصفها الله تعالى ، ويقوم عليها بما أمره الله عز وجل فإنها أعدى له من إبليس وإنما يقوى عليه إبليس بها وبقبولها منه فيعرف أي شي ، طباعها وما إرادتها ، وألام تدعو، وبم تأمر، وكيف خلقتها خلقة ضعيفة قوى طمعها شرهة مدعية خارجة عن طاعة الله سبحانه ، متمنية خوفها امن ، ورجاؤها اماني، وصدقها كذب ، ودعواها باطلة ، وكل شيء منها غرور ، وليس لها فعل محمود ولا دعوى حق ، فلا تغرّنه بما يظهر له منها ، ولا يرجو بما تأمل ، ان حل عنها قيودها شردت ، وان أطلق وثاقها جمحت ، وان أعطاها سؤلها هلكت، وان غفل عن محاسبتها أدبرت وان عجز عن مخالفتها غرفت وان اتبع هواها تولت الى النار وفيها هوت ، ليس لها حقيقة ولا رجوع الى الخير وهي راس البلاء ومعدن الفضيحة وخزانة إبليس ومأوى كل سوء ولا يعرفها احد غير خالقها عز وجل ، فهي الصفة التي وصفها الله عز وجل كلما أظهرت خوفاً فهو امن ، وكلما ادعت صدقاً فهو كذب، وكلما ذكرت إخلاصها فهو رياء ، وإعجاب عند الحقائق يبين صدقها ويعرف كذبها وعند الامتحان ترجع الى دعواها فليس بلاء عظيم الا وقد حل بها فعلى العبد محاسبتها ومراقبتها ومخالفتها ومجاهدتها في جميع ما تدعو اليه وتدخل فيه ، فليس لها دعوى حق وإنما تسعى في هلاكها ودمارها ، ولا توصف بشيء الا وهي اكثر مما توصف فهي كنز إبليس ومستراحه ومسامرته ومحدثته وصديقته)[4]
  إن الانسان لمخلوق جميل التكوين سوي الخلقه. معتدل التصميم. ان الجمال والسواء والإعتدال لتبدو في تكوينه البدني وفي تكوينه النفسي وفي تكوينه الروحي سواء ، فهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء .
   إن هذه العلاقه المترابطة بين هذه الاجزاء تشكل المعيار الرئيسى للكائن الانساني المتمثل بتلك الطاقات التي منحها الله سبحانه وتعالى إياه .  من أجل التوافق بين حاجات الانسان الماديه والمعنويه لكي يمارس دوره في الحياة بشكل متوازن بعيدا عن الانحراف والشطط .
   ولقد اعطاه الله اشعاعه من قبس الروح المضيئه لتضيئ له الطريق وزوده بنور الايمان وكان فى ذلك ملبيا لطبيعة الفطره. ملبيا لطبيعة الكيان البشري الذي لا تفصل فيه طاقه عن طاقه، ولاجزء من بقية الأجزاء. وبهذا قال الامام الرازي: (انه لايمكن ان يقال ان بدن الانسان مكلف من قبل الله بالافعال والترك وكذا يده ورجله أو جبهته أو حدقته أو انفه أو لسانه مكلف بذلك.
     فان العلم الضروري حاصل بانا اذا أمرنا الانسان بأمر أو نهيناه عن فعل فهذا الامر والنهي ما توجها على عضو من اعضائه ولا على جملته بل الشئ المتعرف الثابت لمجوع هذا الجسم هو(النفس) التي تكون ساريه في كل واحد من اجزاء هذا البدن موصوفه بذلك الوصف)[5] .
      فكم من امرئ لا يدري أنه عليل!؛ لأن في رأسه بعض العلوم، ولو فتّش عن نفسه ربما وجدها مليئة بالمشاعر التي لم تعالج، والخشونة التي لم تهذب ورُبّ إنسان قليل في معارفه، إلا أنه عميق الإخلاص، كثير التفتيش عن عيوبه، والاعتراف بتقصيره، هذا بلا شك أرقى من الذي رضي عن نفسه واغتر بها.
    أن النفس ميالة للهوى والشهوات الجسدية إلّا من رزقه الله التقوى فحارب هذا الميل الطبيعى، فصار ممن قال الله فيهم: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[6].
       في الوقت الحاضر مثلًا يبدأ الشباب في تكوين الاتجاهات والقيم الذاتية وهم متأثرون بخليط مضطرب من قيم العصبية والقبلية، مع قيم الحضارة الغربية البراجماتية، بالإضافة إلى قيم الاستهلاك التي أفرزتها حضارة اليوم، فحضارة المادة تربط الإنسان بالأرض وتقطعه عن السماء، وتعلق ذاته بمطالب الدنيا وتُذهلها عن مطالب الآخرة، أي أنها تسير بالإنسان في اتجاه معاكس للدين كله. ولا غَرو أن قيم التقوى الإسلامية تعالج كل هذه الأخلاط المشوِّهة للذات، فهي تمنح الذات ثقة وقدرة خاصة على الكشف، ومعرفة مدى القصور في كل زاوية من دروبها، فكل درب وميدان يتطلب قيمًا إيجابية معينة، توجه الذات وأنماط السلوك نحو هدف معين، وهذا بداهة يتطلب تزكية خاصة مستمرة لا توجد إلا في قيم التقوى.
  قال تعالى ):وَ نَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)[7]،  وقال:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[8]، و قال(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ([9].
      لكى نستطيع أن نتصور هيأة النفس يمكننا أن ننظر الى خلق الملائكة والجن وهى مخلوقات خفية وغيرمرئية مثل النفس. ومع ان الله سبحانه وتعالى لم يخلق للملائكة والجن أجسادا طينية كأجسادنا الا انه خلق لها أجساما من أنواع أخرى ووهبها  قوة ، وهى فى نفس الوقت مخلوقات عاقلة ذكية لها قوة ولها قدرة هائلة.
  كل ذلك يقتضى أن يكون لهذه المخلوقات أجسادا قوية متعددة الاعضاء والحواس والجوارح. فالملائكة – رضوان الله عليهم- لهم أعين وأيدى وأجنحة وغير ذلك كما بين القرآن والسنة، كل ذلك وهى مخلوقات غير مرئية لنا.
    وردت كثير من الآيات تعلمنا أن النفس فيها ملكات عديدة وغرائز متنوعة وانها تتفاعل مع اجزاء البدن وتستخدمها رغم الاختلاف فى تشعب بنية البدن وهذا يقتضى ان تكون للنفس بنية متشعبة حسب ملكاته تتوازى مع تشعب بنية البدن الذى تتفاعل معه وتأخذ شكله من حيث تعدد الاعضاء ووظائفها وهذا ما أكده القرآن الكريم فى قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ)[10] وهذه الاية تشير الى تسوية البدن، وقال فى تسوية النفس: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا،فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)[11] ومن هذا يكون البدن كالقالب للنفس ويمكن ان تأخذ صورته لتميز من غيرها من النفوس.
     ويقول العلماء النفوس ثلاثة:  نفس أمارة بالسوء: وهي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة، وهذه النفس يجب مجاهدتها.  والنفس اللوامة : دائماً تلوم صاحبها لما قلت كذا ولما فعلت كذا، وكلما صدرت عنها سيئة بحكم جبلتها أخذت تلوم صاحبها، وقد أقسم الله بها في كتابه ، وأرفع النفوس و أعلاها النفس المطمئنة:  وهي التي انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة، وهي التي ينادى عليها: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[12].
     إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله، قال تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[13]،
    إن النفس تميل إلى الدعة والراحة، وقد تؤثر الانحطاط واللستفال والتدني، والإخلاد إلى الأرض، ولو فقهت لكان منها المجاهدة طلباً لمعالي الأمور، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم): ألا أخبرُكُم بالمؤمن؟ من أمنه النَّاس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سَلِمَ النَّاسُ من لسانه ويده، والمجاهدُ من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هَجَرَ الخطايا والذنوب)[14] ، وروي عن النبي صلي الله عليه وسلم  أنه قال لأصحابه، وقد انصرفوا من الجهاد: ( أتيتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: مجاهدة النفس)[15]
     تقول باسمة كيال:  يعتبر البحث فى غمار النفس البشرية الزاخر الملىء بالعقبات والمصاعب من اهم المواضيع التى شغلت أذهان وأفكار العلماء والحكماء منذ فجر الخليقة وحتى عصرنا الحاضر. وما زالوا فى صراع عنيف ومرير بين أخذ ورد واستنتاج حول جوهر النفس ومدى ارتباطها بالذى أوجدها (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)[16]، والنفس التى تتمحور بداخلنا توقظنا وتهدينا الى مسالك الحقيقة(وهديناه النجدين)[17]، فتنقلنا الى اسمى المراتب (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ..)[18]، ولكن هيهات أن نعلم نحن كبشر مركبين من لحم ودم ماهيتها لأن النفس البشرية وهى بداخل هذا البدن المادى الذى يعوق درب الانسان غير واصل للمعرفة الحقة ما لم يخلع هذا القميص الذى اعاقه ليرى بعين الحق الجوهرة الصافية، والوصول بواسطتها الى اكتشاف أكثر ألغاز الانسان الموجود على هذه الارض لأن الله سبحانه وتعالى اعطانا ذاتا لاكتشافها ومعرفتها و الوصول عن طريقها الى النور الازلى(وفى أنفسكم أفلا تبصرون)[19].
   واذا ما غصنا فى أعماق آراء من تقدم من الحكماء والعلماء، نلمس أن بعض هؤلاء قد عرفوا ذاتهم ولمسوا ما يتفاعل فى أعماقهم من قوى نفسية تدلهم على الله جل وعلا.
     ولما كان الفيلسوف الاسلامى (أبو على بن سينا) فى طليعة الحكماء الذين عالجوا قضية النفس، بالرغم من ان افكاره وآراءه فيها أرسطوطاليسية. ولكن بعض نظرياته تخالف اختلافا كليا آراء أرسطو لأنه متأثر بما يعتلج بداخله من ايمان عميق بالاسلام ولذلك نلاحظ بأن ابن سينا يقول فى كتابه النفس  : (لما كانت النباتات والحيوانات متجوهرة الذوات عن صورة هى النفس، ومادة هى الجسم والاعضاء، وكان أولى ما يكون علمنا بالشىء هو ما يكون من جهة صورته، ورأينا أن نتكلم فى أمر النفس أولا، فلأن نقدم تعرف أمر النفس ونوجز تعرف أمر البدن أهدى سبيلا فى التعليم، فان معونة معرفة النفس فى معرفة الاحوال البدنية أكثر من معونة معرفة أمر البدن فى معرفة الاحوال النفسانية، على أن كل واحد منهما معين على الآخر، وليس أحد الطرفين بضرورى التقديم، الا أنّا آثرنا ان نقدم الكلام فى النفس لما أمليناه من العذر فمن شاء ان يغير هذا الترتيب فعل بلا مناقشة لنا معه  ).
     ولقد قدم ابن سينا البراهين العقلية المقنعة التى تثبت وجود النفس كجوهرة روحانية قائمة بذاتها، كأصل للقوى المدركة والمحركة، والمحافظة على المزاج، والمتصرفة فى أجزاء الجسم، وباعتقاد ابن سينا أن النفس صورة الجسم تمكنه من الظهور بمظهره المخصوص به ومن القيام بأعماله وواجباته الخاصة به. فيعطينا مثلا على ذلك فيقول: ((ان حديدة مسنونة تقطع، فحديدته هى جسمه المادى وحدته الناتجة من أنه مسنون والتى يقطع بها صورته الروحانية أو نفسه. وكذلك الانسان لا يسمى انسانا بالاجزاء التى فيه من العناصر الاربعة التى هى : النار، والماء، والهواء، والتراب، بل بعقله الذى يتأمل ويفكر ويخلق ويبدع.  وأما النفس ليس لها وجود سابق على وجود بدنها، بل كلما حدث بدن صالح لها للحياة حدثت له نفس خاصة به، ويكون لبدن الحادث مملكة تلك النفس وآلتها، والنفس لا يمكن ان تأتى من شىء مادى كالجسم لأنها مخالفة للجسم. لذلك فهى متصلة بالفيض فى ثنايا ترتيب العقول، واذا امتزجت مقادير من العناصر الاربعة امتزاجا فيه اعتدال وتكافؤ، نشأ من هذا الامتزاج أجسام مستعدة لقبول نفوسها الخاصة بها. وكلما كان الامتزاج اكثر اعتدالا كان الجسم الناتج منه أرقى، فتقبل من أجل ذلك نفسا ألطف، ان الاجسام الكثيفة الناتجة من امتزاجات قليلة الاعتدال كالحجارة والحديد وماء البحر تقبل نفوسا كثيفة نسميها الطبيعة. ونفوس النبات على هذا القياس ألطف من نفوس الجماد، ونفوس الحيوان البهيم، ألطف من نفوس النبات. وبما أن جسم الانسان أحسن اعتدالا من أجسام الحيوان البهيم والنبات والجماد فأنه يقبل نفسا ألطف من نفوسها كلها.فاتصال النفس بالجسم هو استعداد فى كل جسم لتقبل نفس مكافئة فى اعتدالها لاعتدال ذلك الجسم). وحتى يتمكن ابن سينا من اقامة الدليل على وجود النفس فى الانسان يرى أن هناك طريقتان، طريق الحدس وطريق النظر العقلى.
       وقد اعطى ابن سينا برهانا على الموازنة بين المعرفة من طريق الحواس والمعرفة من غير طريق الحواس حيث قال فى الاشارات ص 307: (حينما يفقد الانسان عضوا من أعضائه يبطل الحس المتعلق بذلك العضو، فقدان العين او تلفها يؤدى الى بطلان البصر ، وفقدان الذراع يؤدى الى بطلان تناول الانسان للأشياء بالطريق المألوفة المعتادة ، ولكن ذاته أى نفسه العاقلة لاتتأثر فى معارفها بشىء من ذلك . حتى ان الانسان يقول : رأيت بعينى أو سمعت باذنى أو مشيت برجلى ، فانما يعنى أنه هو ذاته الذى فعل كل ذلك ، والعين كانت فى الحقيقة آلة لرؤية ولم تكن المنتفعة بالرؤية . أما المقصود بالمنفعة من الرؤية فكان ذات الانسان ، ولذلك يقول الانسان دئمآ : أنا رايت، أنا سمعت ، أنا مشيت فهذا المدرك المنطوى فى قوله أنا هو النفس على الحقيقة وهو مخالف لجسمه وللحواس المتصلة بأعضاء من جسمه . وثم بعد ذلك يتبع البرهان الثانى خاصة إن الانسان قد يفكر أو يفعل ، وهو فى أثناء ذلك كله غافل عن أعضاء بدنه وحواسه ، حتى أنه قد يكون مستغرفآ فى تفهم قضية ثم ينادى باسمه بصوت مرتفع من قريب فلا يسمع، ولكنه لا يغفل عما هو بسبيله من التأمل والتفكير. وهذا أيضاء دليل على أن نفسه غيربدنه وغير حواسه المتصلة ببدنه) .
        لنرى  كيف يعطينا ابن سينا مثلآ على ذلك قائلآ :( لو أن إنسانآ خلق دفعة واحدة وكاملآ ثم حجب بصره أيضآ ، وكان يهوى هويآ لا تتلاقى فيه أعضاؤه ولا تتماس ، ولا كان ثمة هواء ولكن لا يكفى لأن يصدم جسمه صدمآ يحس به ، فإن هذا الانسان  الهاوى فى الفضاء يظل مثبتآ لذاته ، ومدركآ أنه موجود) .
      وبالنهاية فان إثبات ابن سينا لنا بكل هذه الملاحظات والبراهين التى مرت معنا يمكننا أن نقول بأن النفس ليست جسمآ ، أنما هى جوهرة روحانية قدسية غير قابلة للفساد، ولا تتكاثر ولا تتالف من أشياء كثيرة كما يتوهم البعض ، بل هى قائمة بالذات، ولا تحتاج فى وجودها الى شىء هو غيرها. وهى ليست مادية بل روحانية، ثم هى مفارقة للجسد عند أشتياقها الى الكل الذى انبثقت منه ، وهى غير محتاجة فى قوامها الى مادة ، وهى موجودة بالفعل مستقلة عن البدن ، بالرغم من أن يعيش بدونها وهى لازمة له.
    والنفس كما يرى ابن سينا تسوس البدن كما أنها تدرك المعقولات، وكونها تسوس البدن يوجد شبه بينها وبين القوة الحيوانية النزعية التى تحدث منها هيئات تخص الانسان فيتهيأ بها بسرعة فعل أو انفعال مثل الخجل أو الحياء والضحك والبكاء وما شابه ذلك. فالنفس تستعمل هذه القوة فى استنباط التدابير فى الامور الكائنة واستنباط الصناعات الانسانية وتوجه الجسم فى عمله وترشده فى أفعاله فتتولد من جراء ذلك، الآراء الذائعة المشهورة، مثل ان الكذب قبيح، والظلم قبيح. وأما الوظيفة الثانية التى تقوم بها النفس فهى ادراكها المعقولات، وهذا يدل على تحرر النفس عن الجسم))[20]. انتهى
    ومما نعلمه ان خصائص تلك المادة التى خلقت منها النفس أنها تستطيع أن تخترق الاجسام المتكتلة كالبدن وأن تشاركها الحيز المكانى الذى هى فيه. فالنفس تخرج من البدن وتدخل فيه وتصعد الى السماء مع الملائكة بعد الوفاة ثم تعود الى الارض.
وفى القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى على لسان الملائكة: (أخرجوا أنفسكم)[21] ، وفى الحديث تقول الملائكة (اخرجى أيتها النفس الطيبة كانت فى الجسد الطيب)[22].
     وعندما نتأمل القرآن الكريم والحديث نجد أن نمو النفس ليس زيادة فى مادة انفس كالبدن ان بنية النفس ثابتة لا تزيد ولا تنقص، بل هو عبارة عن ارتقاء معنوى قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)[23] ولذلك عندما تكسب النفس قدرا كبيرا من العلم  الرفيع والمعرفة  تكون أقوى ما تكون، وكدليل على ان التدهور الكامل على صحة النفس ينشأ عن الفقدان الكامل للعلم قال تعالى: (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا)[24].
      ومع ان الانفس تختلف منذ خلقها من حيث قوتها وضعفها الا ان القوة والضعف ليسا متلازمين مع الصحة والمرض، حيث تتجلى قوة النفس فى قوة العزم وقوة الارادة وما الى ذلك، تتجلى عافية النفس فى حسن السلوك والاتزان وهكذا..ولمعرفة حقيقة النفس البشرية فى القرآن نورد قول الدكتور عابد توفيق الهاشمى: والقرآن الكريم يشير الي ان (النفس) مستودع لكثير من الدوافع السلوكيه ، والانسان مسئول عن جميع سلوكه، قال تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ )[25] ، أي بما كسبت من اعمال، هي المسئولة، فهي لا غيرها التي تجادل عما عملت قال تعالى:( كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت رَهِينَةٌ)[26]  ، وقال: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ مِن كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)[27]، (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَقَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)[28]، فالنفس تكسب عملها بمحض حريتها  واختيارها وارادتها  إذ انها رهينة عملها، الذي سيحاسبها  به الله عز وجل .
   وان يوم القيامه لتحشر كل نفس ، معها من يقودها للحساب، ومن يشهد عليها، قال تعالى:      (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ)[29] .
      وحينما يصدر السلوك عن النفس ، وتكون مسئوله عنه ، يصور بسلوكه عن كل ما استودع فيه . وهذه الحقيقه  كان القرآن الكريم نصيب السبق الى كشفها ولتنظر ماذا اودع الله عز وجل  في النفس:-
اولاً : في النفس معرفة الله : وهي ما تسمى بالشعور الديني الفطري في الانسان ، وعند الاطفال اظهر ، اذ هم اقرب الى الفطره السليمة بسبب عدم تلوثهم بالبيئه المنحرفة:  (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)[30].
ثانياً : وفي النفس معرفة الخير والشر: قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[31]، فالانسان ألهم فطرة الخير كما ألهم فطرة الشر، قال تعالى:        (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)[32] ، كذلك الحديث الصحيح أوضح معرفة النفس الانسانيه للخير والشر فطرة فقال صلى الله غليه وسلم: ( الحلال بين والحرام بين )[33]
ثالثا : الميل فطري للخير ونبذ الشر: وفي النفس ميل فطري الى الخير. فهي خيره، وميل فطري عن الشر فهي تنكره وتعافه، لذا يسمى القرآن الكريم الخير معروفا لانه معروف فطرة فهي تعرفه وتألفه وتانس به، ويسمى نقيضه الشر منكراً، لانها تنكره وتعافه وتستهجنه ولا تقره . فقال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[34] ، وان هذا الخير المعروف فطرة لدى الانسان  ، والشر الذي تنكره الفطره الانسانيه فطره اصلية غير ملوثه ، ينسجم مع قوله صلى الله غليه وسلم:(كل مولود يولد على الفطرة ، فابواه يهودانه اوينصرانه  او يمجسانه )[35] ، والفطره الانسانيه هي الاسلام، وان الاسلام يتجاوب مع طبيعتها ، لانه خالقها كما ورد في القرآن الكريم، قال تعالى:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[36]
     لذا فان الانسان عندما تسره الحسنة وتسوؤه السيئة كان ذلك الشعور منه في سروره وحزنه إزاء النقيضين ، دليل الفطره الخيره ودليل الايمان: (سئل رسول الله صلى الله غليه وسلم عن الرجل تسره الحسنة وتسؤوه السيئة فما حكم الاسلام فيه ؟ فاجاب صلى الله غليه وسلم: (ذلك محض الايمان )[37]. لذا فان الايمان لايجتمع وكبائر الذنوب، قال رسول الله: صلى الله غليه وسلم (لا يَزني الزَّاني حين يَزني وهو مؤمنٌ، ولا يَشرب الخمرَ حين يَشربُها وهو مؤمن، ولايَسرِقُ السارقُ حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذاتَ شرفٍ يَرْفعُ النَّاسُ إليه فيها أبصارَهم وهو حين يَنْتَهِبُها مؤمن)[38] .
     اما حين ينحرف عن السلوك المستقيم بمعاص وذنوب، فان نفسه تنحرف عن الفطره السليمه وتتلوث بغبار الواقع الكثيف الذي يحجب القلوب عن النور الالهي وعن الحق الفطري الساطع ، فاذا به يخبو ازاءها، بما ألفته من ظلام المعصية وتردد الاسفاف والهوى وفي حديث الرسول صلى الله غليه وسلم توضيح لهذه الحقيقه النفسية:( إِنَّ الْعَبْد إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَة نُكِتَتْ فِي قَلْبه نُكْتَة سَوْدَاء ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّه وَتَابَ ، صُقِلَ قَلْبه ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا ، حَتَّى تَعْلُو عَلَى قَلْبه)[39]، ذلك هو الران الذي ذكره الله تعالى: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[40] والران هو ما يغطي القلب من حجاب كثيف ويبعده عن ادراك الخير أو تقبله او الاستئناس به ، ويحبب اليه الشر الذي ينغمس فيه ويقيد منه الهوى والمصالح القريبه والانانيه التي يكسبها.
       لذا فان النفس الانسانيه فطرها الله على حب الخير كما فطرها على الرجوع اليه ان شطت عن الطريق بما فيها من عوامل امتحانها ، وبما في البيئه من عوامل الافساد.
رابعاً: وفي النفس الاراده والتحمل: قال تعالى:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[41] .
خامساً:  وفيها العاطفة :
أ- عاطفة الاشفاق والالم المعنوي قال تعالى:( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[42] ، قال تعالى:   (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[43] .
ب – عاطفة الحزن : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[44].
ج- عاطفة الخوف : قال تعالى (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى)[45].
د- عاطفة الحب والميل النفسي : قال تعالى: ( إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى)[46] .
سادساً : وفيها الرغبه : قال تعالى: ( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[47] .
سابعاً : وفيها الشهوة الجنسية: قال تعالى:( قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ)[48]  ففي النفس ميل جنسي ، كما ان فيها اباء وتسامي .
ثامناً : وفيها التذوق والاستمتاع : للطعام والشراب والجمال الطبيعي والجمال المعنوي قال تعالى (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[49] ، وقال تعالى (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِيأَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)[50]. وان: ( ما تدعون )[51] تشمل الاخيلة والتصورات والاماني الانسانية ، ومع ان هذين النصين يخصان اهل الجنة ، الا ان فيها اشارة واضحة الى ان النفس الانسانية تتذوق وتشتهي وتستمتع ، ولو لم تكن كذلك لما استشعرت بنعمها المنشودة في الجنة. . تاسعاً:وفيها الحس المعنوي والشعور بالتعب والجهد: قال تعالى (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[52] .اي ان النفس يشق عليها الجهد البالغ العناء .
عاشراً : النفس ميزان الفكر والسلوك: ( ما كرهت ان يراه الناس فيك فلا تفعله بنفسك اذا خلوت)[53]، وكذا قوله صلى الله غليه وسلم:(البر حسن الخلق ،والاثم ما حاك في نفسك وكرهت ان يطلع عليه الناس )[54] .
احد عشر : وفيها النوايا والهواجس : قال تعالى: (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[55] ، قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[56].
       إن النفس الإنسانية موئل الفضائل، كما أنها جُبّ الرذائل، إنها إذا ما أهملت لصقت بها مجموعة خسائس ولا بد، فإذا ازداد الإهمال ازداد الاتساخ ولا شك. وحتى نلقى الله - تعالى- وهو عنا راضٍ، لا بد أن نَقدم عليه بصفحةٍ نقية، وقلب سليم: (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[57] ([58].انتهى
     مما تقدم نجد ان الطاقات الروحية معطلة فى التوجيه الانسانى لجهله بحقيقتها، وهى مفصلة فى التوجيه الالهى بما يسبغ على الانسان الافادة منها فى نفسه وفى واقعه، اضافة الى انه يسبغ عليه السعادة الوارفة وسعة الافق والطاقات الهائلة فى النفس. ونتفق مع الباحثة فى قولها:  قدم ابن سينا البراهين العقلية المقنعة التى تثبت وجود النفس كجوهرة روحانية قائمة بذاتها، كأصل للقوى المدركة والمحركة، والمحافظة على المزاج، والمتصرفة فى أجزاء الجسم. ونعود لما ورد فى الحديث الشريف بخصوص معرفة النفس الانسانية: جاء في الحديث (مَن عَرَفَ نفسَه فقد عَرَفَ ربَّه)[59] ، قال النووي في فتاويه : معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار الى الله والعبودية له ، عرف ربه بالقوة والربوبية والكمال المطلق والصفات العلى)[60] .
   وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في لطائف المنن : سمعت شيخنا ابا العباس المرسي يقول : في هذا الحديث تأويلان :
احدهما : ان من عرف نفسه بذلها وعجزها وفقرها عرف الله بعزه وقدرته وغناه ، فتكون معرفة النفس أولا ثم معرفة الله من بعد .
والثاني : ان عرف نفسه فقد دلَّ منه على انه عرف الله من قبل ، فالأول حال السالكين ، والثاني حال المجذوبين)[61] .
     وقال ابو طالب المكي في قوت القلوب : معناه اذا عرفت صفات نفسك في معاملة الخلق، وانك تكره الاعتراض عليك في أفعالك وان يعاب عليك ما تصنعه عرفت منها صفات خالقك، وانه يكره ذلك ، فارض بقضائه ، وعامله بما تحب ان تعامل به)[62] .
     وقال القونوي في شرح التعرف : ذكر بعضهم في هذا الحديث انه من باب التعليق بما لا يكون، وذلك ان معرفة النفس قد سد الشارع بابها لقوله: ) قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فنبه بذلك على ان الإنسان اذا عجز عن إدراك نفسه التي هي من جملة المخلوقات، وهي اقرب الأشياء إليه ، فهو عن معرفة خالقه اعجز، بل هو عاجز عن إدراك حقيقة قوله وحواسه كسمعه وبصره وشمه وكلامه وغير ذلك فإن للناس في كل منها اختلافات ومذاهب لا يحصل الناظر منها على طائل .
كاختلافهم في ان الإبصار بالانطباع او بخروج الشعاع , وان الشم بتكيف الهواء وبانبثاث الأجزاء ذوات الرائحة ، الى غير ذلك من الاختلافات المشهورة ، فاذا كان الحال في هذه الأشياء الظاهرة التالي يلابسها الإنسان على هذا المنوال , فكيف يكون الحال في معرفة الكبير المتعال)[63]
 اذن من عرف نفسه عرف ربه لان النفس هي الحجاب بين العبد وبين ربه عز وجل ومن عرف نفسه تواضع لله عز وجل.
    الانسان اذا ما جهل نفسه فأنى له أن يعرف ما يصلحها وما يفسدها، ما يسعدها وما يشقيها؟ والنفس هى أصل وجود الانسان فى الكون، وحرى بها ان تكون أول العلم عنده. ولكنه بحث عن كل شىء ولم يشأ يبحث عن نفسه.
   القصيدة العينية
     لما كان ابن سينا فى طليعة الحكماء الذين عالجوا قضية النفس، نرى لزاما علينا التعرض الى ما أورده فى قصيدته العينية المعروفة التى يقول فى مطاعها:
(1) هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ            
                          وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
(2) مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ
                      وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ
(3) وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا          
                     كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
(4) أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ
                       أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ
(5) وَأَظُنُّهَا نَسِيَتْ عُهُودًا بِالحِمَى
                            وَمَنَازِلاً بِفِرَاقِهَا لَمْ تَقْنـــَعِ
(6) حَتَّى إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَاءِ هُبُوطِهَا
                      عَنْ مِيمِ مَرْكَزِهَا بِذَاتِ اُلأَجْرَعِ
(7) عَلِقَتْ بِهَا ثَاءُ الثَّقِيلِ فَأَصْبَحَتْ
                           بَيْنَ المَعَالِمِ وَالطُّلُولِ الخُضَّـعِ
(8) تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى        
                                 بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ
(9) وَتَظَلُّ سَاجِعَةً عَلَى الدِّمْنِ الَّتِي
                            دَرَسَتْ بِتِكْرَارِ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ
(10) إِذْ عَاقَهَا الشِّرْكُ الكَثِيفُ وَصَدَّهَا
                           قَفَصٌ عَنِ الأَوْجِ الفَسِيحِ المُرْبِعِ
(11) وَغَدَتْ مُفَارِقَةً لِكُلِّ مُخْلِفٍ         
                             عَنْهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيِّعِ
(12) سَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الغِطَاءُ فَأَبْصَرَتْ
                               مَا لَيْسَ يُدْرَكُ بِالعُيُونِ الهُجَّعِ
(13) وَغَدَتْ تُغَرِّدُ فَوْقَ ذِرْوَةِ شَاهِقٍ
                                 وَالعِلْمُ يَرْفَعُ كُلَّ مَنْ لَمْ يُرْفَعِ
(14) فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ مِنْ شَامِخٍ     
                          عَالٍ إِلَى قَعْرِ الحَضِيضَ الأَوْضَعِ
(15) إِنْ كَانَ أَهْبَطَهَا الإِلَهُ لِحِكْمَةٍ
                           طُوِيَتْ عَنِ الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأَرْوَعِ
(16) فَهُبُوطُهَا إِنْ كَانَ ضَرْبَةَ لاَ زِبٍ
                                    لِتَكُونَ سَامِعَةً بِمَا لَمْ تَسْمَعِ
(17) وَتَعُودَ عَالِمَةً بِكُلِّ حَقِيقَةٍ
                                  فِي العَالَمَيْنِ فَخَرْقُهَا لَمْ يُرْقَعِ
(18) وَهْيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا
                                  حَتَّى لَقَدْ غَربت بِعَيْنِ المَطْلَعِ
(19) فَكَأَنَّهَا بَرْقٌ تَأَلَّقَ بِالحِمَى                              
                                      ثُمَّ  انْطَوَى  فَكأَنَّهُ  لَمْ  يَلْمَعِ)[64] انتهى.
هذه القصيدة تعبر أكثر من غيرها عن رأي وتصور ابن سينا في أصل النفس، مكونة من4 أقسام.  يشير ابن سينا في قسمها الأول  الى من أين جاءت النفس ويقول أنها جاءت من محل أرفع أي من فوق وأتت رغماً عنها وكارهة لذلك، ثم اتصلت بالبدن وهي كارهة لكنها بعد ذلك تألف وجودها بالبدن، وتألف البدن لأنها نسيت عهودها السابقة، ثم رجعت من حيث أتت وانتهت رحلتها..
و في القسم الأخير من القصيدة يبدأ ابن سينا يتساءل لماذا؟
فيجيب أنها هبطت لحكمة إلهية، هبطت لا تعلم شيئاً لتعود عالمة بكل حقيقة ولكنها لم تعش في هذا الزمن إلا فترة.
  حاول كثير من العلماء شرح هذه القصيدة، رأينا أن نقدم شرحا وافيا للاستاذ لطفي خيرلله. حيث يقول:
(1) هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ              وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
أي هبطت إليك أيّها الإنسان الّذي هو جسد ونفس موجود في عالم الكون والفساد، هذه النّفس الّتي كنّى عنها بالورقاء أي الحمامة ذات غبرة في لونها، من محلّ القدس وعالم الألوهة والثّبات، والجوهرة البريّة من التغيّر، والشّريفة والعزيزة والمتمنّعة عن أن تخالط الهيولى والأجسام. ولا يريد بها ابن سينا أي نفس كانت كالنّفس النّباتيّة أو الحيوانيّة، بل النّفس العاقلة فقط.
(2) مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ          وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ
وهذه النّفس العاقلة والشّريفة لمّا حلّت فيك، فإنّ الإنسان النّاظر والمدرك للأشياء المحسوسة بحواسّه الخمس امتنع عليه أن يدركها، أو يثبت وجودها، وذلك لأنّها من طبيعة غير طبيعة هذا العالم، وهو لا ينظر للوجود ولا يطلب معرفته إلاّ بما لا يُوقِفُه منه إلاّ على الأشياء الطّبيعيّة والهيولانيّة، فصارت النّفس لذلك الإنسان وكأنّها محجوبة عنه. أمّا العارف الفطن الّذي قد ترقّى إلى مرتبة الإدراك العقليّ، وتخلّص من أسر الحسّ، وهُمْ قليل جدّا، فهي سافرة له بيّنة عنده، وأظهر لديه من الحسّ نفسه، فصارت النّفس في حقّه وكأنّها قد سفرت ولم تتبرقع، أي لم تتّخذ برقعا، وهو أداة تخفي وجه المرأة.
(3) وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا        كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
والنّفس بعدما كانت في عالم القدس وهبطت إليك، فإنّها أوّل ما هبطت إليك قد شقيت من هذا السّقوط، وضاقت به ذرعا، ولم تستمرئه البتّة، وكرهته أيّما كره. ومع ذلك فها أنت تشاهدها الآن قد صارت تتفجّع من فراقك، أي فراق جسدك؛ لأنّك ترى النّاس كلّهم أو جلّهم إنّما يخشون الموت.
(4) أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ  أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـع
وآية كرهها لهذا السّقوط من عالم القدس، وحلولها في جسدك أنّه قد تقزّزت منه أوّلا، وتجانفته؛ لكنّ هذه النّفس، وبعد طول الإقامة، فقد أنست سكنه واستمرأت الثّواء فيه. وقد كنّى ابن سينا عنه بالخراب البلقع، أي خال، لأنّ الجسم في الحقيقة هو أقرب إلى العدم منه إلى الوجود، وهو لاشيء بالقياس إلى عالم الحقيقة الّذي هوت منه تلك النّفس.
(5) وَأَظُنُّهَا نَسِيَتْ عُهُودًا بِالحِمَى  وَمَنَازِلاً بِفِرَاقِهَا لَمْ تَقْنـــَعِ
وهذه النّفس برضاها وشغفها بالبقاء في عالم الطّبيعة والفساد بعد أن كانت قد تعذّبت وشقيت أوّل ما حلّت في الجسم وفارقت عالم القدس، لَكَأَنَّها قد نسيت تلك العهود الطيّبة حين كانت ترفرف في حمى القدس، وعالم النّور والثّبات، وذهلت عن منازل عليّة كريمة كانت أوّلا قد أسيت من فراقها ولم تقنع به.
(6) حَتَّى إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَاءِ هُبُوطِهَا    عَنْ مِيمِ مَرْكَزِهَا بِذَاتِ اُلأَجْرَعِ
ولمّا استمّرت النّفس في مكان الهبوط، ومركز عالم ما تحت القمر، وهو عالم الأرض، وقد كنّى عنه بذات الأجرع، أي الأرض الخشنة...
(7) عَلِقَتْ بِهَا ثَاءُ الثَّقِيلِ فَأَصْبَحَتْ   بَيْنَ المَعَالِمِ وَالطُّلُولِ الخُضَّـعِ
وصارت مثقلة بالقيود الجسميّة، وطال حبسها فيها، فإنّ هذه النّفس، ولكن ليست أيّ نفس، بل النّفس الكريمة، ذات الفطرة الجيّدة، والتّي القوّة العقليّة لم تخمد منها كلّها، وهي موجودة بين الآثار والرّسوم والأطلال الخضّع، أي الخاشعة، وهذه كلّها كناية عن الحياة الأرضيّة...
(8) تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ
ما تنفكّ تبكي وتنوح بمدامع تسيل ولا تنقطع تحسّرا وتحرّقا كلّما تذكّرت عهودا وأيّاما شَيِّقَةٍ كانت مقيمة فيها بالحمى، أي بعالم القدس وسِدْرَةِ المنتهى. والحمى في أصل اللّغة هو كلّ ما ينبغي أن يُحمى.
(9) وَتَظَلُّ سَاجِعَةً عَلَى الدِّمْنِ الَّتِي دَرَسَتْ بِتِكْرَارِ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ
وهذه الورقاء، وهي كناية عن هذه النّفس الكريمة، تبقى أيضا ساجعة أي نائحة على الدّمن، أي عند آثار النّاس والبهائم، وهذا أيضا كناية عن العالم الأرضيّ الّذي درس أي ذهب، بتعاور الرّياح الأربع عليه، والرّياح الأربع عند العرب هي الصّبا، والدّبور، والشّمال، والجنوب؛ وإنّما كنّى بها عن العناصر الأربعة الّتي تتركّب منها كلّ الموجودات الأرضيّة، أي الماء والهواء والتّراب والنّار.
(10) إِذْ عَاقَهَا الشِّرْكُ – أىشِّرْاكُ - الكَثِيفُ وَصَدَّهَا قَفَصٌ عَنِ الأَوْجِ الفَسِيحِ المُرْبِعِ
قد يريد بالشّرك، الكفر، والكفر هو التغطية، والباطل، فكنّى ابن سينا عن عالم الجسم، بالشّرك، لأنّه هو أيضا باطل فهو لا شيء، وهو كفر، فهو يُعَمِّي النّفس عن أصلها. وهذا الشّرك الكثيف أي الغليظ، إذ لفّ هذه النّفس الكريمة، فقد عاقها عن أن تتّصل بأصلها العلويّ الّذي جاءت منه، وكان لها قفصا وسجنا يمنعها من أن تسيح في أوج فسيح وعالم مُرْبِعٍ، أي وشّاه الرّبيع.
(11) وَغَدَتْ مُفَارِقَةً لِكُلِّ مُخْلِفٍ عَنْهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيِّعِ
ولكن هذه النّفس الكريمة، وليست أي نفس، لمّا كان قد بقي فيها من عالم العقل نسبة، وكانت تتألّم من فراقها لأصلها، وتبكي للعهود الأولى، فلا جرم أنّها سوف تجتهد لأن تعود لأصلها، وتعاود الاتّصال به، وهي بَعْدُ في عالم الجسم؛ وذا ممكن، لكن بشرط المجاهدة وسلوك الطّريق. وأوّل مرتبة في هذه المجاهدة والسّلوك إنّما بأن تفارق النّفس الكريمة والمتشوّقة كلّ نفس أخرى دَيْدَنُهَا الكذب والإخلاف، أي هي غير صادقة في ذكرها للعالم العقليّ، وأن تهرب من كلّ من حالف التّراب والجسم، ولم تكن له همّة أو صدق، وهذا معنى غير مشيّع، في أن يزهد فيهما.
(12) سَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الغِطَاءُ فَأَبْصَرَتْ مَا لَيْسَ يُدْرَكُ بِالعُيُونِ الهُجَّعِ
وبعد أن تواصل المجاهدة والارتياض بأن تتعفّف من الأمور الحسيّة والشّهوات المردية، وبأن تدمن على تأمّل الأمور المعقولة، وتُبْقِي الجوهرة النّفيسة فيها وهي العقل تتّقد أبدا، فسوف تنكشف لها الحقيقة، وتلمح، وهي بَعْدُ متسربلة بالجسم، الأنوار الشّعشانيّة، واللمّع القدسيّة الّتي لا يمكن أن تُدْرَكَ إلاّ بملكة العقل المبرّا من الحسّ، أمّا أولائك الّذين أوغلوا في المحسوسات، وتردّوا في الشّهوات، وصاروا كالبهائم، فعيونهم هاجعة، ونائمة، ولا يمكن أن ترى إلاّ الوهم والكذب أي المحسوس.
(13) وَغَدَتْ تُغَرِّدُ فَوْقَ ذِرْوَةِ شَاهِقٍ وَالعِلْمُ يَرْفَعُ كُلَّ مَنْ لَمْ يُرْفَعِ
لذلك فهذه النّفس الكريمة لمدوامتها على الرّياضة والمجاهدة، ولانكبابها على المعقولات الّتي هي العلم الحقّ، فسوف يكون جزاؤها أن ترقى إلى ذروة السّعادة، وتبلغ إلى قمّة الكمال الّتي لا يمكن أن تُبْلَغَ إلاّ بذلك العلم الحقّ. وقوله: والعلم يرفع كلّ من لم يرفع، فمعناه أنّ النّفس لمّا كانت في أوّل ما التبست بالجسم قد انحطّت إلى الحضيض ولم تُرْفَعْ، فبذلك العلم الحقّ لهي حريّة بأن تُرفع إلى المقام الأسنى.
(14)فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ مِنْ شَامِخٍ عَالٍ إِلَى قَعْرِ الحَضِيضَ الأَوْضَعِ
يأخذ ابن سينا هنا في السّؤال سؤالا قد يسأله كلّ ناظر في أمر النّفس ويحتار فيه، ألا وهو، ليت شعري، وماسبب أن تكون النّفس قد فارقت عالمها الشّريف العالي لتنزل إلى هذا الحضيض الفاني عالم الجسم؟ وما الحكمة في ذلك ؟ وكيف كان لها أن تستبدل الّذي هو أدنى بالّذي هو خير؟
(15) إِنْ كَانَ أَهْبَطَهَا الإِلَهُ لِحِكْمَةٍ    طُوِيَتْ عَنِ الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأَرْوَعِ
فهبوطها قد يكون لغرض إلاهيّ ليس يعلمه إلاّ الله، ومُنِعَ عن الانسان ولو كان اللّبيب الفطن المدقّق.
(16) فَهُبُوطُهَا إِنْ كَانَ ضَرْبَةَ لاَ زِبٍ لِتَكُونَ سَامِعَةً بِمَا لَمْ تَسْمَعِ
أو قد يكون هبوطها لضرورة ذاتيّة، وهذا معنى ضربة لا زب، أي حتما، وذلك من أجل أن تُحَصِّلَ معرفة من غير جنس المعرفة الأولى الحاصلة لها. لأنّ المعرفة الأولى هي معرفة عقليّة محض. وبعد هبوطها واتّصالها بالجسم، فقد حصل لها معرفة من جنس آخر، وهي المعرفة بعالم الهيولى. ولعلّ ذلك هو معنى قوله: لتعود عالمة بما لم تسمع، يقصد ليتجدّد لها معرفة غير المعرفة العقليّة الأولى.
(17) وَتَعُودَ عَالِمَةً بِكُلِّ حَقِيقَةٍ فِي العَالَمَيْنِ فَخَرْقُهَا لَمْ يُرْقَعِ
والّذي يؤيّد التّأويل السّابق قوله هنا: وتعود عالمة بكلّ حقيقة في العالمين، أي عالم العقل وعالم الهيولى، أي لتجمع بين المعرفتين، المعرفة العقليّة والمعرفة الحسيّة. لكن ابن سينا يستدرك على ذلك بقوله إنّ صحّ هذا السّبب في تعليل هبوط النّفس فإنّ هبوطها قد أضرّ بها ولم ينفعها، وأنّ اكتسابها لمعرفة أخرى حسّيّة إلى المعرفة العقليّة وإن كان في ظاهره زيادة ووفرة، لكنّه قد نال من بساطة تلك النّفس وبثّ فيها الشّقاق السّاري إليها من الهيولى، فلم تلتأم كامل الالتآم، فكأنّها ثوب شُقَّ، ثمّ رُقِّعَ لكنّ هذا الترّقيع لا يمكن أن يعيد ذلك الثّوب إلى وحدته الأولى التّامّة.
(18) وَهْيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا  حَتَّى لَقَدْ غَربت بِعَيْنِ المَطْلَعِ
ووجود النّفس في الزّمان هو الذي جعلها تدخل تحت حكم التغيّر، والهيولى، وإذ كانت هي في أصلها بسيطة، وعالمها الحقيق بها إنّما هو عالم الثّبات والأبديّة، أي ما فوق الزّمن، إذًا فوجودها في الزّمن ودخولها تحت حكمه، جعل الزّمن يصرفها عن غايتها وحقيقتها، وهذا معنى قوله: وهي الّتي قطع الزّمان طريقها. وقوله حتّى لقد غربت بعين المطلع، فلعلّه يعني به: وبسبب تسلّط الزّمن على النّفس وحصولها في الجسم، فهي قد غابت، لكن غروبها هو ليس مُرْسَلاً، بل من نفس غروبها، فإنّها تعاود أن تطلع ثانية إذا ما جاهدت وارتاضت لتجدّد اتّصالها بالعالم الأعلى.
(19) فَكَأَنَّهَا بَرْقٌ تَأَلَّقَ بِالحِمَى  ثُمَّ انْطَوَى فَكأَنَّهُ لَمْ يَلْمَعِ
وبالأَخَرَة، فهذه النّفس في نزولها ثمّ ترقّيها ثانية إذا قِيسَتْ إلى الأبديّة والأزليّة، لكأنّها برق تألّق ثمّ ما لبث أن اختفي حتّى كأنّه لم يلمع البتّة، أي كأنّ النّفس ما هبطت، ولا ظهرت، ولا عادت ثانية إلى أصلها)[65].انتهى.
           لقد عرف الانسان منذ قديم الزمان أن بداخله كائن تختلف طبيعته عن طبيعة الجسد . وأن هذا الكائن له صفة غيبية وله صلة السماء ، وأن هذا الشىء يظل موجود بداخله طيلة حياته ثم يفارقه عند مماته. وقد ظل العلماء والفلاسفة ورجال الدين عبر تاريخ الانسانية يفكرون فى هذه النفس لعلهم يعرفون ماهيتها وخصائصها ثم لعلهم يعرفون سر الحياة ومعنى الموت وربما السبيل الى الخلود.
 يخلقَ الله تعالى الإنسانَ من عَدَمٍ في أكملِ صورةٍ وأَتَمِّ خِلْقَةٍ، ولذا خاطبَه بقولِه في محكمِ آياتِه: (( يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَك))[66] ، وشاءتْ إرادةُ اللهِ أن يخلقَ للإنسانِ ما يتلائمُ مع ظرفِه، وينسجمُ مع حياتِه، ويتماشى مع طبيعتِه؛ فكانتِ المخلوقاتُ مِنْ حولِه أنيسَه ومَطْعَمَه، والأرضُ مِهَادَه، والسماءُ لِحافَه، والليلُ والنهارُ زمانَه، ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[67] ، ومع تكاملِ مادَّةِ الحياةِ اسْتَوْدعَ الحقُّ سبحانَه في  الإنسانِ ما يَسْتَوجِبُ الموائَمَةَ مع مَنْ حولَه ويصلحُ لهذا التكاملِ؛ إذ بغريزة النفس يَحفظُ نوعَه بما يكفلُ استمرارَه وبقاءَه ((فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً))[68] ، وبفطرتِها يهتدي إلى التوحيدِ ويستجيبُ لبواعثِ الإيمانِ ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))[69] ، وبالنفس الحيِّة اليقظِة يندفعُ نحوَ الطريقِ القويمِ والعملِ الراشدِ ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) [70]
     إن النفس كالطفلِ فما دُمْتَ تُغَذِّيه بالغذاءِ الصالحِ ينمو ويقوَى، أما إذا أهملْتَها فإنها تضْمرُ وتضْعُفُ، وضمورُها دمارٌ لصاحبِها في الدنيا والآخرةِ؛ ونموُّ النفسِ يكونُ بالمداومة على الأعمالِ الصالحةِ وتحرِّي صنائعِ المعروفِ والبحثِ عن جوانبِ الخيرِ فيها: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))[71] . كما تنمو النفس وتترَبَّى مِنْ خلالِ ترطيبِ اللسانِ بذكرِ اللهِ تعالى والمحافظةِ على العباداتِ؛ حتى تكونَ مطمئنةً في كلِّ حينٍ (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي)) [72]
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.


[1] كتاب الغنية لطالبي الحق / ص 597-600 – الشيخ عبد القادر الجيلانى
[2] سورة النور الآية:21
[3] سورة يوسف الآية: 53
[4] كتاب الغنية لطالبي الحق - ص 597-600 – الشيخ الجيلانى
[5] كتاب النفس والروح - الامام الرازي
[6] سورة النازعات الآية: 40-41
[7] سورة الشمس الآية:  7،10
[8] سورة العنكبوت الآية: 69
[9] سورة القيامة الآية: 1،2
[10] سورة الانفطار الآية:  7.
[11] سورة الشمس الآية: 7
[12] سورة الفجر: 27،30
[13] سورة النازعات: 37،41
[14] رواه أحمد وغيره/ السلسلة الصحيحة: 549.
[15] شرح صحيح البخارى لابن بطال، ج10 ص210
[16] سورة الشمس الاية: 7
[17] سورة البلد الاية: 10
[18] سورة الفجر الاية:27.
[19] سورة الذارات الاية:21.
[20] أصل الانسان وسر الوجود/ رحيق النفس/3 - باسمة كيال
[21] سورة الانعام الآية: 93
[22] المسند (17803) - الإمام أحمد .
[23] سورة البقرة الآية:31.
[24] سورة الحج الآية:5.
[25] سورة النحل الآية: 111
[26] سورة المدثر 38
[27] سورة الرعد الآية: 33
[28] سورة الرعد الآية: 42
[29] سورة ق الآية: 21
[30] سورة الاعراف الآية: 172 – 173
[31] سورة الشمس الآية: 7-10
[32] سورة البلد الآية: 10
[33] البخاري ومسلم .
[34] سورة ال عمران الآية: 110
[35] رواه احمد
[36] سورة الروم الآية: 30 .
[37] رواه مسلم
[38] أخرجه البخاري (2475 ومواضع أخرى) ومسلم (57) عن أبي هريرة
[39] رواه احمد 7754
[40] سورة المطففين الآية: 14
[41] سورة الكهف الآية: 28
[42] سورة الشعراء الآية: 3
[43] سورة الكهف الآية: 6
[44] سورة فاطر الآية: 8
[45] سورة طه الآية: 67
[46] سورة النجم الآية: 23
[47] سورة التوبه الآية: 120
[48] سورة يوسف الآية:32
[49] سورة الزخرف الآية: 71
[50] سورة  فصلت الآية: 31
[51] سورة الانعام 41
[52]سورة النحل الآية: 7
[53] رواه ابن حيان
[54] رواه مسلم
[55] سورة البقرة الآية:  235
[56] سورة ق الآية:  16
[57] سورة الشعراء الآية:  88، 89
[58] حقيقة النفس الانسانية - الدكتور عابد توفيق الهاشمى
[59] عوالي اللئالي - ابن أبي جمهور الأحسائي - ج ٤ - الصفحة ١٠٢ نقل السيوطي في " ذيل الموضوعات " ( ص 203 ) كلام النووي هذا و أقره ، و قال في " القول الأشبه " ( 2 / 351 ) من " الحاوي للفتاوى " : هذا الحديث ليس بصحيح* مصباح الشريعة: ص13، في الحقائق في محاسن الاخلاق للعلامة الكاشاني.
[60] الحاوي للفتاوي( ص: 288 ) القول الأشبه - جلال الدين السيوطي
[61] المصدر السابق
[62] المصدر السابق
[63] الحاوي للفتاوي (ص 290 ) القول الأشبه - جلال الدين السيوطي
[64] أصل الانسان وسر الوجود/ رحيق النفس/3 - باسمة كيال
[65] شرح القصيدة العينية لابن سينا - الاستاذ لطفي خيرلله http://www.flyingway.com/vb/showthread.php?t=72820
[66] سورة الانفطار الآية:6-8
[67] سورة البقرة الآية: 29
[68] سورة الفرقان الآية:54
[69] سورة الروم الآية: 30
[70] سورة الشمس الآية: 7-8
[71] سورة فصلت الآية:46

خاتمة :
         ندعو الله أن تكون خاتمة خير وبركة ان شاء الله، فقد طفنا فى رياض الصالحين، واقتطفنا ثمرات من خواطر العارفين، فى بهجة الاشراق الروحى العالى، والبصيرة النافذة المضيئة، حول كتاب مفهوم  الولاية والاولياء.
    أن التصوف المحمود يعني‏:‏ علم الباطن وهو الزهد في الدنيا حتى يستوي عنده ذهبها وترابها‏.‏ ثم الزهد فيما يصدر عن الناس من المدح والذم حتى يستوي عنده مدحهم وذمهم‏.‏ ثم الاشتغال بذكر الله وبالعبادة المقربة إليه، فمن كان هكذا فهو الصوفي حقا وعند ذاك يكون من أطباء القلوب فيداويها بما يمحو عنها الطواغيت الباطنية من الكبر والحسد، والعجب والرياء، وأمثال هذه الغرائز الشيطانية التي هي أخطر المعاصي وأقبح الذنوب‏.‏ ثم يفتح الله له أبوابا كان عنها محجوبا كغيره لكنه لما أماط عن ظاهره وباطنه غشاوة صار حينئذ صافيا عن شوب الكدر مطهرا عن دنس الذنوب فيبصر ويسمع ويفهم بحواس لا يحجبها عن حقائق الحق حاجب، ولا يحول بينها وبين درك الصواب حائل، ويدل على ذلك أتم دلالة، وأعظم برهان ما ثبت في صحيح البخاري وغيره.
           ومعلوم أن من كان يبصر بالله سبحانه ويسمع به ويبطش به ويمشي  به له حال يخالف حال من لم يكن كذلك، لأنها تنكشف  له الأمور كما هي، وهذا هو سبب ما يحكى عنهم من المكاشفة، لأنه قد ارتفع عنهم حجب الذنوب، وذهب عنهم أدران المعاصي‏.‏ وغيرهم من لا يبصر به ولا، يسمعه به ولا يبطش به ولا يمشي به ولا يدرك من ذلك شيئا، بل هو محجوب عن الحقائق غير مهتد  إلى مستقيم  الطريق .
      فما وقع من هؤلاء القوم الصالحين من المكاشفات هو من هذه الحيثية الواردة في الشريعة المطهرة،  ففي هذا الحديث فتح باب المكاشفة لصالحي عباد الله وأن ذلك من الله سبحانه فيحدثون بالوقائع نور الإيمان الذي هو من نور الله سبحانه فيعرفونها كما هي حتى كأن محدثا يحدثهم بها ويخبرهم بمضمونها‏.‏
    فمن كان من صالحي العباد متصفا بهذه الصفات متسما بهذه السمات فهو رجل العالم، فرد الدهر، وزين العصر، والاتصال به مما تلين به القلوب وتخشع له الأفئدة وتنجذب بالاتصال به العقول الصحيحة إلى مراضي الرب سبحانه  وكلماته هي الترياق المجرب وإشاراته هي طب القلوب القاسية وتعليماته كيمياء السعادة، وإرشاداته هي الموصلة إلى الخير الأكبر والكرمات الدائمة التي لا نفاذ لها ولا انقطاع‏.‏
        ولم تصف البصائر ولا صلحت السرائر بمثل الاتصال بهؤلاء القوم الذين هم خيرة الخيرة وأشرف الذخيرة، فيا لله قوم لهم السلطان الأكبر على ‏ قلوب هذا العالم يجذبونها إلى طاعات الله سبحانه، والإخلاص له، والاتكال عليه، والقرب منه، والبعد عما يشغل عنه، ويقطع عن الوصول إليه، وقل أن يتصل بهم ويختلط بخيارهم إلا من سبقت له السعادة وجذبته العناية الربانية إليهم، لأنهم يخفون أنفسهم ويظهرون في مظاهر الخمول، ومن عرفهم لم يدل عليهم إلا من أذن الله له.
      فيا طالب الخير إذا ظفرت يدك بواحد من هؤلاء الذين هم صفوة الصفوة وخيرة الخيرة فأشددها عليه واجعله مؤثرا على الأهل والمال والقريب والحبيب والوطن والسكن، فإنا إن وزنا هؤلاء بميزان الشرع واعتبرناهم بمعيار الدين وجدناهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقلنا لمعاديهم أو للقادح في علي مقامهم أنت ممن قال فيه الرب سبحانه كما حكاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وقد آذنته بالحرب‏)، ‏لأنه لا عيب لهم إلا أنهم أطاعوا الله كما يحب وآمنوا به كما يحب ورفضوا الدنيا الدنية وأقبلوا على الله عز وجل في سرهم وجهرهم وظاهرهم وباطنهم‏.‏
             فالأولياء مهما بلغوا من مراحل التقرب إلى الله عز وجل , يبقوا بشر وليسوا معصومين من الخطأ وإنما مستعصمين ومتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والولي أيا كان يؤخذ من كلامه ويرد عليه الا اذا اتى بما في كتاب الله وكلام الحبيب صلى الله عليه وسلم والاولياء درجات واعلى درجة هي الروح والريحان .
           وللاولياء كرامات وخوارق وليس معجزات كمعجزات الانبياء  فالولي ليس بمعصوم بل يخطيء فيستغفر الله وليس هناك عصمة لاحد ايا كان  فالانبياء يخطئون فيستغفرون الله ويتوبون اليه، فكيف تكون هناك عصمة للاولياء ان لم تكن هناك عصمة للانبياء كما في هذه الايات الشريفة قال المولى عز وجل في آدم عليه السلام:(فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[1]
      قال المولى عز وجل في نوح عليه السلام:(قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ)[2]
           قال المولى عز وجل في ابراهيم عليه السلام:(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[3] . قال الحبيب صلى الله عليه وسلم:" كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون "[4]
         فالولي هو من يخلص العبادة لله واساس اخلاصه في عبادة الله هو التقوى والولي له كرامات وخوارق من فضل المولى عز وجل عليه والولي محفوظ يحفظه المولى عز وجل والولي منصور ينصره المولى عز وجل ويجعل له سلطانا فالاخلاص في العبادة يكون لله الواحد الاحد .
    ويظل أهل الولاية تحت سماء القرب والوصول، معلقة عيونهم بنبع الأنوار الفياض ، وقلوبهم دوماً في مراقبة التجليات ، فتحصل عندهم غرائب المعارف بدقيق المشاهدات ، وينالون خلعة المعرفة .
    نريد أن نذكر المسلم ببعض الحقائق المهمة التي يلزمه أن يضعها نصب عينه في سيره نحو الحق والحقيقية، وأهم ما يلزمنا التذكير به هو:
(1) خطورة الخوض في المسلك الروحي والقضايا الغيبية من دون مرشد بصير، يرشد السالك إلى الله في كل مرحلة من مراحل جهاده في ذات الله إلى ما يلزمه التحفظ عليه وما يلزمه التحذر منه.
       إذا فلا بد من هاد الى الطريق وقدوة، سؤول ذى ذكر، خبير بوسيلة العودة إلى الله، والفرار والهجرة إليه سبحانه وتعالى. وفى حياتنا العملية إذا كان لا بد لكل طالب يريد حفظ كتاب الله من مقرئ خبير بأحكام التجويد يقوم له لسانه، ويبين له أحكام التلاوة، وصحة الأداء، ولو ترك هذا الطالب ونفسه لاستحال عليه الأمر وتعذر عليه أن يحصل حق التلاوة وصحة الأداء، وبالتالى اضطربت معه مفاهيم الآيات، وغابت الأحكام  وقل مثل ذلك في كل علم من علوم الشريعة، واللغة، وكل علم من علوم الدنيا سواء كانت عقلية، أم بدنية جسمانية عملية.
    ومن الملاحظ أن الكثير من الشباب المتدين ولاسيما من يتمتعون بحس ديني مرهف وإرتباط قوي بالله، يواجهون مشاكل عدة في المجال الروحي، وهذه المشاكل إذا لم يستطع الشاب حلها من خلال عرضها على من يمتلك الخبرة والبصيرة في القضايا الروحية فإنها مؤهلة لأن تكبر وتتفاقم وربما تؤدي في نهاية الأمر إلى عواقب وخيمة تفسد على الشاب حياته وتفكيره وسلوكه.
ومن الخطأ أن يتصور البعض أن مجاهدة النفس وتهذيبها وقطع تصرفات الشيطان اللعين عنها بالكلية مهمة يسيرة يتهيء له انجازها والقيام بها شخصياً ومن دون الاستعانة بخبرات وتجارب الآخرين ممن وفقهم الله تعالى في الخروج بنتائج إيجابية في المجال الروحي.
(2) من الأمور المهمة للغاية في حركة الإنسان وسعيه من أجل توثيق ارتباطه بخالقه ومعبوده، الاتزان والاعتدال في علاقته بالدنيا من جهة، وبالآخرة من جهة أخرى، إذ من اللازم على الإنسان أن لا يتصور إن الارتباط بالله سبحانه وتعالى والتقرب إليه يعني قطع علاقته بالكلية مع الدنيا وعدم اعطاء نفسه حظوظها المباحة من متع الدنيا، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى:
(  يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ *  قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[5].
    ولا يتصور أن الآيات أو الأحاديث التي تحث على لزوم اعطاء الإنسان نفسه حظوظها من الدنيا تتنافى وتلك الأخبار الكثيرة التي تذم الدنيا وتدعو الإنسان لقطع علاقته بها والزهد في متاعها ولذتها، بل مجموع هذين القسمين من الآيات والأخبار إنما يريد حفظ اعتدال الإنسان واتزانه بحيث لا يحصل عنده إفراط في جانب ولا تفريط في جانب آخر، وهكذا الأمر بالنسبة الى الأحاديث التي تأمر بالإكثار من العبادة وفي مقابلها الاحاديث التي تمدح الاقتصاد في العبادة، وفي الجمع بين هذه الأحاديث .
(3) من المزالق الخطيرة التي يقع فيها البعض من جهلة المتظاهرين بالنسك والعبادة هو القول: بأن غاية العبادات والأعمال هو طهارة باطن الإنسان فإذا طهر باطنه وصفى سره فلا حاجة به إلى العبادات.
ونجد هذا الفهم المعوج والخاطئ لدور العبادة في حياة الإنسان قد بدء في الظهور منذ العصر الأول للإسلام حينما كان البعض يستدل بقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[6] ، على أن الإنسان المؤمن يصح له أكل وشرب الحرام وأنه ليس عليه جناح في ذلك كما تدل عليه الآية مادام يؤمن بالله ويعمل الصالحات.
      وفي الحقيقة والواقع أن صدور مثل هذه الأفعال المخالفة للشرع من قبل المدعين للولاية والقرب من الله، وتبريرها من قبل البعض الآخرين من الجهلة هو الذي أوجب التشنيع على التصوف والخروج عن الدين من قبل الفقهاء وعامة الناس، وعلى هذا الأساس تم الخلط بلا وعي وإدراك بين التصوف الصحيح والتصوف الباطل. أردنا فقط من خلال هذه الإشارة المختصرة إليها تنبيه المسلم على ضرورة عدم الوقوع عند هذه الاشتباهات الخطيرة، وعدم الاقتناع بالتبريرات التي تقدم لها، ويكفي في إبطالها أننا لم نشاهد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والأئمة من أهل بيته وخلفائه (رضى الله عنهم) هذه المخالفات، بل كانوا حريصين كل الحرص على التمسك بأحكام الشريعة والتأدب بآدابها مع ما لهم من قدم صدق في الولاية والقرب من الله عز شأنه.
(4) إن على كل من يريد السلوك إلى الله والتقرب منه أن يعي أن التقرب إلى الله وتوثيق الاتصال بعالم الغيب لا يعني الانفصال عن هذا العالم الدنيوي، وعدم احساس الإنسان بمشاكل المجتمع ومعايشته لهمومه، وهناك فرق بين أن نقول: إن الإسلام وكل الشرائع السماوية تدعوا الإنسان إلى الترفع عن عالم المادة والتوجه إلى العالم الغيبي، وبين أن نقول: إن الإسلام والأديان الإلهية تريد قطع صلة الإنسان بعالمه الدنيوي وجعله مترفعاً عن الإحساس بهموم الناس ومشاكلهم.
فالأمر الأول صحيح وأما الأمر الثاني فلا، لأننا حينما نتفكر في نفس الغاية التي من أجلها شرع الله جل وعلا الدين وبعث الأنبياء والرسل (عليهم السلام) نلحظ أنها ترتبط بالناس وبالمجتمع كل الارتباط ويكفينا التأمل في الآيات القرآنية التالية:
الأولى: قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[7].
الثانية: قوله تعالى: (  قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا *  رَّسُولا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[8].
الثالثة: قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)[9].
     فهذه الآيات الكريمة وغيرها كثير تدلنا على أن الغاية من بعث الأنبياء والرسل (عليهم السلام) هي إقامة العدل في المجتمع وإخراج الناس من ظلمات الوهم والجهل والشرك إلى نور العلم والحقيقة والتوحيد الخالص لله وسبحانه وتعالى.
     فهل كان بإمكان الرسل والأنبياء (عليهم السلام) أن ينجزوا هذه المهمة ويقوموا بتلك الوظيفة وهم بعيدون عن الناس لا يدرون ما هي همومهم ولا يعون ما هي مشاكلهم؟
      ولقد سعى الإسلام لمحاربة هذه النظرة الانزوائية والانعزالية التي يريد البعض من خلالها حصر الإسلام في دائرة ضيقة تنصب كل اهتماماتها على تضخيم المعاناة الذاتية للشخص وتتغافل عن كل أنواع المعاناة التي يعيشها الآخرون، حينما اعتبر العديد من مظاهر السعي الاجتماعي التي تستهدف حل مشاكل الآخرين والتفاعل معهم أفضل بكثير من مظاهر السعي الفردي التي تتأطر بالتفكير الضيق في قضايا الذات وهمومها الشخصية، ففي الحديث روى ابن أبي الدنيا، والطبراني في الأوسط ، وابن عساكر، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أيّ الناس أحبّ إلى الله تعالى ، وأيّ الأعمال أحبّ إلى الله تعالى فقال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:
(أحبّ الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ، وأحبّ الأعمال إلى الله: سرور تدخله على مسلم: تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً. ولأنْ أمشي في حاجة أخٍ لي أحبّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً. ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة. ومن مشى في حاجة أخيه حتى يثبّتها أو حتى تتهيأ له ثبّت الله قدميه يوم تزلّ الأقدام وإنّ سوء الخُلُق ليفسد العملَ كما يفسد الخلّ العسل).
(5) من المهمات التي يلزم التوجه إليها أن لا تكون الغاية لسعي الإنسان الروحي شيئاً آخر غير الله سبحانه وتعالى، فهو الغاية التي ينبغي أن يجعلها الإنسان لكل أعماله الخيرة وقرباته الصالحة، ولذا لا ينبغي للإنسان أن يندفع في العبادة ويكثر منها بغرض نيل الكرامات التي نسمع بصدورها كثيراً من أولياء الله تعالى، وليعلم الإنسان الذي يريد السعي إلى الله بقدمي الاخلاص والعبودية أن نيل الكرامة ليس هدفاً في حد ذاته، وربما كان اشتغال الإنسان واهتمامه بالكرامات من الحجب التي تحجب الإنسان عن الوصول إلى مقصده الأصلي من سعيه الروحي.
     هذه خمسة أمور مهمة أردنا من المسلم الذي يسعى إلى القرب من الله أن يأخذها في حسبانه ولا يغفل عنها، لأن الغفلة عنها ربما أدت إلى أن يتحرك المسلم في اتجاه معاكس لما يريده الله منه في الوقت الذي يعتقد أن سعيه الروحي يقربه من الله.


اللهم صلى وسلم علي سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه









المراجع
1- القرآن الكريم
2- فتح الباري بشرح صحيح البخاري
3- صحيح مسلم
4- كتاب الرماح - الشيخ عمر الفوتي
5- لطائف المنن- الشيخ تاج الدين بن عطاء الله
6- الطبقات -  الشيخ عبد الوهاب الشعراني
7- تأسيس القواعد -  الشيخ أحمد زروق
8-  الإرشاد- أبو المعالي الجويني
9- الرسالة القشيرية- الإمام أبو القاسم القشيري
10- نشر المحاسن- الإمام أبو محمد اليافعي
 11- حلية الأولياء- للشرجي
12-  كتاب روض الرياحين- لليافعي
13 -  كتاب النفس والروح- الامام الرازي
14-  الاشارات – ابن سينا
15 - غبطة الناظر من ترجمة الشيخ عبدالقادر- لابن حجر العسقلانى
16- بهجة الأسرار فى ترجمة الشيخ عبدالقادر وذريته الأطهار- الشطنوفى
17-  الغنية لطالبى طريق الحق- الجيلانى
18-  فتوح الغيب - الشيخ عبدالقادر الجيلانى
19-  الفتح الربانى والفيض الرحمانى
20-  ديوان الشيخ عبدالقادر الجيلاني- الدكتور يوسف زيدان
21-  جامع الاصول- احمد ضياء الدين الكمشخانوي
22- الإبريز – الشيخ عبد العزيز الدباغ
23- كتاب ختم الأولياء- الامام الحكيم الترمذي
24- معراج التشوف في حقائق أهل التصوف- احمد ابن عجيبة
25 - كتاب مرآة المحاسن - الأمام ابي حامد محمد العربي ابن يوسف الفاسي.
26- اتحاف السادة المتقين – الامام السيوطى
27- الزهد – الامام أحمد بن حنبل
 28- شرح الأربعين النووية – الامام النووي
29-  المستدرك على الصحيحين – الحاكم
30-  لطائف المنن - الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندرى
31- على حافة العالم الأثيري – فندلاي
32- نهج البلاغة – الشريف الرضى
33- رسائل قيصري، رسالة التوحيد والنبوة والولاية
34- جامع الأسرار ومنبع الأنوار- حيدر الآملي
35- أضواء حول الحياة بعد الحياة - الدكتور ريمون مودي
36 - بحار الولاية المحمدية في مناقب اعلام الصوفية - الدكتور جودة محمد ابو اليزيد المهدي
37- كتاب الطريق الصوفى – يوسف محمد طه زيدان
38- بستان العارفين - الإمام النووي
39- الجزء الأول من مقال فصوص النصوص الصوفية لغَوْثيةُ الإمام عبد القادر الجيلانى
40- بحث الطيب عبدالرازق النقر- الجامعة الاسلامية العالمية بماليزيا
41- شرح تائية ابن سينا - الاستاذ لطفي خيرلله
42- أصل الانسان وسر الوجود/ رحيق النفس/3 - باسمة كيال
43- شرح التعرف- القونوي
44- قوت القلوب - ابو طالب المكي
45- لطائف المنن - الشيخ تاج الدين بن عطاء الله
46- حقيقة النفس الانسانية - الدكتور عابد توفيق الهاشمى
47- فتاوي النووي - الامام النووي
48- كتاب النفس والروح - الامام الرازي
49- شبابنا ومشاكلهم الروحية - السيد كامل الهاشمى
50- احياء علوم الدين – ابوحامد الغزالى.
51- تفسير القرطبى – الامام القرطبى
52- فيض القدير / للإمام محمد عبد الرؤوف المناوي
53- الفتاوى الحديثية - احمد بن حجر المكي                                  
54- نسيم الرياض أحمد شهاب الدين الخفاجي
55- كتاب مذاقات فى عالم التصوف - الدكتور د. حسن عباس زكى
56- طريق الهجرتين  - ابن القيم الجوزية
57- مدارج السالكين.- ابن القيم الجوزية
58- صفوة الصفوة – ابن الجوزى
59- قطر الوَلْي بشرح حديث الولي – الشوكانى.
60- فتح الباري – ابن حجر
61- كتاب المواقف الروحية و الفيوضات السبوحية - الأمير عبد القادر الجزائري
62- حامع العلوم والحكم – ابن رجب الحنبلى
63- جواهر المعانى - علي حرازم بن العربي براد المغربي الفاسي
64- فيض القدر – شرح الجامع الصغير – الشوكانى
65- شرح الأربعين النووية – الامام النووي
66- كتاب التفسير الكبير المسمى مفاتيح الغيب - الفخر الرازي
67- كتاب الفروق اللغوية - أبو الهلال العسكري
68- شرح التائية الكبري - محمد داوود قيصرى رومى
69- معجم اصطلاحات الصوفية – الكاشانى.
70- كشف المحجوب - الهوجيرى ابو الحسن
71- كتاب " النفحة العلية في الأوراد الشاذلية- عبد السلام بن مشيش
72- التذكرة - أبو الفرج أبن الجوزي
73- تاريخ دمشق (الجزء 20 , الصفحة25 ) - الحافظ بن عساكر.
74- بحث الدكتور منصور أبوشريعة العبادي
75- بحث  الدكتور محمد السقا عيد
76تفسير ابن كثير - ابن كثير
77بحث - الدكتور منصور أبوشريعة العبادي
78- كتاب الطبقات الكبرى – الشيخ عبد الوهاب الشعرانى
79- منظومة "جوهرة التوحيد" – اللقانى
80- اتحاف السادة المتقين- السيوطى .
81- التسهيل - ابن سعيد الغرناطي
82- كتاب الرماح - الشيخ عمر الفوتي
83- شرح الحكم العطائية- الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
84- موقع مفكرة الاسلام - للشيخ/ عبد المحسن العباد
85- مختار الصحاح.
86- لسان العرب - دار صادر بيروت
87- مختصر منهاج القاصدين - أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة
88- كتاب المغني مع الشرح الكبير/ المجلد العاشر- الإمام ابن قدامة 
89- مقدمة ابن خلدون - ابن خلدون
90- البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي - الشيخ أحمد الصديق الغماري
91- إيقاظ الهمم بشرح الحكم - أبو العباس احمد بن عجيبة
92- المنقذ من الضلال – الامام ابى حامد الغزالى  
93- كتاب الطريق الصوفى – يوسف محمد طه زيدان.











السيرة الذاتية للمؤلف
* الباقر مالك الامين أحمد البدوى
* القضارف 20 أبريل 1957م.
* درس المرحلة الاولية والوسطى بين القضارف وشندى، والثانوى بمدرسة القضارف الثانوية، ودرس ادارة الاعمال بجامعة الخرطوم كلية الدراسات الاقتصادية الاجتماعية وتخرج فى العام 1983م.
* سلك الطريق القادرية على يد الشيخ أبو عاقلة الشيخ أحمد الريح الشيخ عبد الباقى أزرق طيبة ، وهو شيخ مجاز فى الطريقة القادرية العركية.
* التحق يسلك الضباط الاداريين فى العام 1984م،
* مؤلفاته: كتاب عابد الله أزرق طيبة - المنهج والتطبيق- مطبوع. وله عدة مؤلفات تحت الاعداد (تحقيق لكتاب والده الشريف مالك المسمى بالفوائد) و(كتاب الاشراف أولاد مشيلعيب) و(كتاب العركيين فى الطبقات) ، وهذا الكتاب : مفهوم الولاية والأولياء.




[1] سورة البقرة 2 - آية 37
[2] سورة هود آية 47
[3] سورة الشعراء - آية 82
[4] - سنن ابن ماجه
[5] سورة الأعراف: 31 ـ 32
[6] سورة المائدة الآية: 93
[7] سورة الحديد الآية: 25
[8] سورة الطلاق الآيات: 10 ـ 11
[9] سورة إبراهيم الآية: 5

ليست هناك تعليقات: